فوجئ جميع المؤيدين والمحرّضين على شنّ الحرب ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رغم توافر الفرصة والذريعة في أعقاب حصول تفجيرات ناقلات النفط في ميناء الفجيرة، أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تستجب لدعواتهم، ولم تعمد للمسارعة الى استغلال التفجيرات للقيام بالتصعيد وتهيئة الأجواء الدولية والرأي العام الأميركي لتنفيذ هجوم عسكري على إيران بدعوى وقوفها وراء هذه التفجيرات، وتهديدها لأمن إمدادات الطاقة من الخليج إلى العالم، بل انّ ترامب عمد إلى التهدئة وطمأنة العالم إلى أنه لا ينوي الذهاب إلى الحرب وانه يميل إلى الحلّ الدبلوماسي مع إيران، وليس الى الحلّ العسكري.. والأمر نفسه تكرّر بعد قيام حركة أنصار الله بشنّ هجوم بواسطة طائرات مسيرة على مضختي نفط سعوديتين في عمق الأراضي السعودية ونجاحها في إصابتهما ووقف تدفق النفط منهما، حيث لم تلجأ واشنطن إلى التصعيد.. ويبدو أنّ كلمة السر الأميركية بالجنوح نحو إطلاق مواقف التهدئة وعدم التصعيد وصلت إلى حكام الرياض، ودفعت وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير إلى الإعلان بأنّ السعودية لا تريد الحرب مع إيران ولا تسعى إليها…
أما في كيان العدو فإنّ المسؤولين الصهاينة، الذين يقفون وراء دفع ترامب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي والتحريض على التصعيد ضدّ إيران، لاذوا بالصمت، وكأنهم تهيّبوا الموقف وأدركوا أنّ الأمر يحتاج إلى قراءة متأنية وعدم التهوّر في الدفع إلى حرب قد تبدأ لكن لا يمكن التحكم بمدياتها ونتائجها ليس فقط على مصالح ونفوذ أميركا في المنطقة، بل أيضاً على أمن واستقرار حلفائها، وفي المقدّمة كيان الاحتلال الذي سيتحوّل بدوره إلى مسرح للحرب.. ولهذا فإنّ الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو لم تصدر أيّ موقف، لكن وزير الطاقة يوفال شتاينتز خرج عن الصمت وافصح عن حقيقة ما يدور في كواليس دوائر القرار الإسرائيلي من حذر وتخوّف من اندلاع الحرب، وقال لتلفزيون «واي نت» «انّ الأوضاع تحتدم في الخليج، وأنه إذا اشتعلت الأوضاع بشكل ما بين إيران والولايات المتحدة، أو بين إيران وجيرانها فأنا لا استبعد أن يؤدّي ذلك إلى تفعيل دور حزب الله والجهاد الإسلامي من غزة، أو حتى أن يحاولوا إطلاق صواريخ من إيران على دولة إسرائيل»…
هذا التوجه بعدم الرغبة بالحرب، أبلغه ترامب إلى البنتاغون، بالقول إن لا خطة لديه للحرب مع إيران، حسبما نقلت مجلة «تايم» الأميركية عن مسؤولين عسكريين في وزارة الدفاع الأميركية… هكذا حسم ترامب السجال داخل إدارته، ولجم دعاة الحرب فيها، بقيادة مستشاره للأمن القومي جون بولتون.. ما يعني أنّ استراتيجية ترامب هي استخدام سلاح الضغط الاقتصادي مدعوماً باستعراض للقوة، لمحاولة إجبار إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأميركية التي تستهدف تعديل الاتفاق النووي الإيراني بما يحقق بعض الأهداف الأميركية الإسرائيلية، عجزت واشنطن عن فرضها وتمريرها في المفاوضات التي سبقت التوصل للاتفاق النووي عام 2015 بين طهران والسداسية الدولية.. غير أنّ استراتيجية تشديد الحصار على إيران لإخضاعها تواجه الإخفاق لسببين.. الأول، استمرار إيران في بيع نفطها وعدم قدرة واشنطن على منع العديد من الدول من ذلك وفي مقدمة هذه الدول الصين وروسيا، والثاني، أنّ واشنطن لا تستطيع استخدام القوة لوقف صادرات النفط الإيرانية لأنّ إيران قادرة على وقف إمدادات النفط من المنطقة إلى العالم، والتفجيرات التي استهدفت ناقلات النفط في ميناء الفجيرة الواقع خارج مضيق هرمز، وكذلك ضرب مضختي النفط داخل السعودية كانت بمثابة رسالة قوية بأنّ أيّ محاولة لاستخدام القوة لمنع بيع النفط الإيراني ستؤدّي أيضاً إلى منع دول الخليج من تصدير نفطها إلى الخارج… وهذا أحبط استراتيجية ترامب، من ناحية لم تتمكّن من تصفير صادرات النفط الإيرانية، ومن ناحية ثانية فإنّ الضغط الاقتصادي الأميركي فشل في التأثير على صلابة الموقف الإيراني أو النيل من متانة الوحدة الوطنية والتماسك الداخلي في التصدّي للحرب الأميركية الاقتصادية ورفض الرضوخ للشروط الأميركية بالجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت الضغط ووفق شروط واشنطن.. على أنّ هذا الفشل وضع إدارة ترامب أمام مأزق حقيقي في سعيها إلى تطويع موقف إيران وإجبارها على التفاوض معها تحت الضغط، وتبدّى هذا المأزق بشكل واضح في عجز الولايات المتحدة عن فرض سلطانها ليس فقط على إيران، وإنما أيضاً على دول عديدة في العالم، مثل الصين وروسيا وفنزويلا وسورية وكوبا إلخ… ترفض الخضوع لهيمنتها وتعمل على تقويض هذه الهيمنة، فسياسة العقوبات الاقتصادية والحصار تواجه صعوبة في توفير الدعم والتأييد الدولي لها ما يجعلها تواجه الفشل في تحقيق اهدافها، أما اللجوء إلى شنّ الحرب فإنه يحمل مخاطر كبيرة على الإمبراطورية الأميركية، لكون الحرب ضدّ دولة مثل إيران ليست نزهة، وهي حرب ستكون باهظة الثمن ومكلفة مادياً واقتصادياً على الولايات المتحدة وحلفائها، وتعرّض مصالحها في المنطقة لأضرار كبيرة، عدا عن أنّ احتمالات فشلها في تحقيق أهدافها أكبر بكثير من احتمالات نجاحها، ما قد يؤدّي في مثل هذه الحالة إلى تداعيات خطيرة على الولايات المتحدة نتيجة الخسائر الجسيمة التي ستصيب الاقتصاد الأميركي وما يعنيه ذلك من تسريع في أفول الإمبراطورية الأميركية التي تعاني من التصدّع… وبالتالي التعجيل بولادة نظام دولي جديد يقوم على التعدّدية.. ولأنّ هذه هي الاحتمالات فإنّ التخبّط والاضطراب هو الذي يطبع السياسة الأميركية.. انه مأزق الإمبراطورية النابع من عجز قوتها العسكرية والاقتصادية عن إخضاع الدول التي تقاوم هيمنتها وتجعل استمرارها مستحيلا، لأنّ توازن القوى العالمي، اقتصادياً وعسكرياً، تبدّل فعلاً، والعالم أصبح متعدّداً، والهيمنة الأميركية الأحادية انتهت ولم يعد بالإمكان تعويمها واستعادتها، والحروب المباشرة وغير المباشرة، التي شنتها واشنطن لهذه الغاية، فشلت وأكدت هذه الحقيقة.. ويبقى أن تقرّ إدارة ترامب بهذه الحقيقة، كما أقرّت بها إدارة الرئيس باراك أوباما، عندما امتنعت عام 2013 عن الذهاب إلى أخذ قرار شنّ الحرب المباشرة ضدّ سورية، واضطرت إلى التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، باعتباره أقلّ الخيارات سوءا بالنسبة لواشنطن، لأنّ خيار الحرب مكلف وغير مضمون النتائج…