من المفترض أن يشكل الاهتمام بالشأن العام تعبيراً عن سعي الفرد لبذل البعض من جهده ووقته من أجل خدمة مجتمعه والتقدم به إلى الأفضل، فيكون هذا الاهتمام تعبيراً عن قيمة أخلاقية يتمتع بها الفرد، عنوانها التضحية والإيثار والتواضع، والطبيعي لمن تدفعه أخلاقه العالية إلى ممارسة الشأن العام أن تحكم هذه الأخلاق مسار هذه الممارسة.
يحدث أن نقع في مراقبتنا وتفاعلنا مع الحياة العامة على وجود نماذج نافرة في ممارستها للشأن العام، بما يتنافى مع أبسط القواعد الأخلاقية، فنشهد الفاسد الذي يستولي على المال العام بقوة وجوده في موقع مسؤولية، ونشهد الكاذب الذي يزور الحقائق ولا يرفّ له جفن، ونشهد النمام الذي يعتاش على نقل الكلام وفي أحيان كثيرة نقلاً مشوّهاً لتخريب العلاقات بين الآخرين والإساءة لمنافس أو خصم سياسي، كما نشهد الشتامين الذين يستخدمون التعابير النابية في توصيفاتهم وتعابيرهم.
أهم ميّزات من يتعاطى الشأن العام هي الأخلاق، وصاحب الأخلاق خجول ولائق ومهذب، وصاحب لسان نظيف وجيب نظيفة وكف نظيفة وسيرة نظيفة، ولا يخجل حاضره من ماضيه ولا يخجل مستقبله من حاضره، ولا يخجل لسانه من كلماته، ولا يخجل المعلن من كلامه مما يقوله في السر، ولا تخجل يمناه مما فعلت يسراه، ولهذا قيل في مذمة أهل السوء أنهم أصحاب وجهين وأصحاب لسانين.
البذاءة والفساد والنميمة أمراض في كل مجتمع، وتوسّعها علامات هبوط في حاضر المجتمعات، لكن تسللها وانتشارها بين المتعاطين في الشأن العام وتكاثرها بينهم دلالة انحطاط مخيف على مستقبل هذه المجتمعات، لأنها تدل أن هذه المجتمعات تقدم أسوأ ما عندها لتحمُّل مسؤولية بناء مستقبلها، وسيقوم ببناء هذا المستقبل على شاكلتهم، بينما معنى الشأن العام هو أن مَن يتقدمون نحوه هم الأفضل والأنقى والأرقى، وحكماً هم الأعلى مراتب في الأخلاق.
قد يصعب التمييز بين المتعاطين للشأن العام بين السيئ والجيد على أساس طروحاتهم والمبادئ التي ينظرونها للناس، لكن التمييز سهل في الأخلاق وهو كافٍ لفصل الأخيار عن الأشرار، فالكاذب والبذيء فاسد حكماً، ونمام حكماً، لأنه بلا أخلاق فلا رادع بينه وبين كل رذيلة. وتنقية الحياة العامة من عديمي الأخلاق مسؤولية عامة، تبدأ عند الناس بملاحظة سلوك من يتقدمون لممارسة الشأن العام وأخلاقهم، والحكم عليهم على أساسها، فينبذون من سقطوا في امتحانها ويرفعون شأن من تشكل ميزان حياته.
قيل كثيراً إن هناك حزب أوادم يجمع أصحاب الأخلاق مهما اختلفوا في أفكارهم ومبادئهم. وهذا صحيح، فأمثال هؤلاء تستطيع الاختلاف معهم، وتدير ظهرك لهم بأمان، أما من انعدمت أخلاقهم فلا يمكن أن تثق بهم حتى لو اتفقت معهم. فالوفاء عندهم قطع نادر كما الصدق.
نحتاج الهواء النقي في حياتنا العامة كشرط لا غنى عنه للنهوض، ومعيار هذه الحاجة الفرز في ساحة العمل العام على أساس الأخلاق وسيادتها في الأقوال والأفعال.
مناسبة هذا الكلام، ما قيل، من شخص يفترض أنه في موقع الشأن العام، بحق صاحب الغبطة الراحل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الذي كان لنا شرف تكريمه قبل رحيله بأيام كحامل لدرع المعلم بطرس البستاني.