أَكْثر ما يَحْتاج إِليه لبنان في ظلِّ السَّعي إِلى النُّهوض باقْتِصاده، وتَرْشيد إِنْفاقه والحدِّ من النَّزْف في مَداخيله ومُكافَحة تفشِّي الفَساد فيه ونهج الإِهْدار المُزْمن، بِناء الثِّقة بَيْن مُكوِّنات الحُكم في والشَّعْب الَّذي انْتَظر مُنْذ أَرْبعينيَّات القَرْن الماضي أَنْ تَسْتحيل المَزْرعة دَوْلةً من دون جَدْوى، كما وعلَّل الجيل الثَّاني نَفْسه منذ تسعينيَّات القرن الماضي بأَنْ يَنال المنَّ والسَّلْوى في "الجُمْهوريَّة الثَّانية"، فما كان أَمامه إِلاَّ السَّراب!.
صَحيحٌ أَنَّ الرَّئيس العماد عون ماضٍ في "التَّغْيير والإِصْلاح" مِن دون هوادةٍ، ما فَتح الباب على المُزايدات من هُنا وهُناك، في الغيرة على مَصالح الشَّعْب وحُقوقه... وكأَنَّ مَن أَهْدرها هي الأَشْباح الآتية إِلَيْنا مِن فيلم "غوست باسترز"... ولكنَّ الصَّحيح أَيْضًا أَنَّ النَّاس باتَت في حاجَةٍ أَقلَّه إِلى ضَماناتٍ في شَأْن مُسْتقبل بنيها، تُثبتُ أَنَّ نَهْج اقْتِسام الجُبْنة قد ولَّى، وهُم إِلى ذلك ما عادوا قادِرين على التَّضْحية أَكْثر!...
وصَحيحٌ أَيْضًا أَنَّ نَجاح السِّياسات والإِجْراءات الاقْتِصاديَّة، وقُدْرة الحُكومة على تَحْقيق أَهْدافها المُصرَّح عَنْها في بَيانِها الوزاري، يَتأَثَّر إِلى حدٍّ بَعيدٍ في مستوى الثِّقة السِّياسيَّة بَيْن المواطنين من جهةٍ، والحُكومة ومؤسَّساتها ومُمثِّليها من جهةٍ أُخْرى، وتَحْديدًا الوزراء والمدراء العامِّين في المُؤَسَّسات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة المُخْتلفة.
وأَكَّد الكثير من الدِّراسات أَنَّ "الثِّقة في الحكومة، تُسْهم في خَفْض تَكاليف المُعاملات، والمُرونة والقُدْرة على تَحْقيق التَّراكُم الرَّأْسمالي، في ظلِّ حالات عَدم اليَقين... وهي بذلك تشكِّل المَبادئ الإِرشاديَّة لسُبُل تحقيق النُّموِّ والتَّنْمية الاقتصاديَّة" (Schmidt, 2003).
في المُقابل فإِنَّ ضُعْف الثِّقة، يُؤدِّي إِلى إِثارة الشُّكوك في شَأْن "جَدْوى السِّياسات والإِجْراءات الحُكوميَّة وأَهْدافها"، ما يَحول دون تَعاون المُواطن مع الحُكومة في ممارسة دوره في الرَّقابة الشَّعْبيَّة لتَصْويب السِّياسات، أو يَعوق التِزامه بالقوانين والتَّشريعات. وفي هذا المَجال يَقول الاقتصاديّ كينيث آرو: "يَبْدو أَنَّ فَضيلة الصِّدْق ذات أهميَّة عَظيمة في الحياة الاقتصاديَّة... ونَسْتطيع أَنْ نَقول بقَدْرٍ مَعْقولٍ من اليَقين: إِنَّ الكَثير من التَّخلُّف الاقْتِصاديّ في العالم، يُمْكن تَفْسيره بانْعِدام الثِّقة المُتَبادلة" (Arrow, 1972).
ومِن هُنا وجوب رَفع مُسْتوى الأَداء الاقتصاديِّ للمُؤَسَّسات ومُمارسة سياسةٍ اقْتِصاديَّة شفَّافة وواضحة، تُساعد في التَّخْفيف مِن حدَّة الصُّعوبات...
الثِّقة السِّياسيَّة
لقد عرَّفت الأُمم المُتَّحدة "الثِّقة السِّياسيَّة" في "إعلان فيينَّا" عن "بناء الثِّقة في الحكومة عام 2007"، بأَنَّها تُعبِّر عن "وجود تَوافقٍ في الآراء بين أَفْراد المُجْتمع عن القِيَم والأَوْلويَّات والاخْتِلافات المُشْتركة، وعلى القَبول الضِّمْني للمُجْتمع الَّذي يَعيشون فيه. كما وتُشير أَيْضًا إِلى تَوقُّعات المُواطنين لنَمط الحُكومة الَّتي يَنْبغي أَنْ تَكون عليه، وكيف يَنْبغي للحُكومة أَنْ تَعْمل وتَتفاعل مع المُؤَسَّسات الاجتماعيَّة والاقتصادية".
وتَتعزَّز الثِّقة في الحُكومة عندما تَسْتطيع أَنْ تُلبِّي حاجات المُواطنين، في تَحْسين المُسْتوى المَعيشيِّ، والرِّقابة، وضَبْط الأَسْعار، وتَأْمين فرص العمل، وسيادة الأَمْن والعَدالة والإِنْصاف... وأَنْ تُنفِّذ كلَّ ما تُعْلن عنه أَو تُصرِّح به. وبمعْنى آخِر، فإِنَّ الثِّقة السِّياسيَّة هي تَحْكيمٌ وتقييمٌ شامِلٌ وعامٌّ من المُواطِنين، لما يَقوم به المَسْؤولون، في الشَّكْل الصَّحيح والأَمْثل حتَّى في ظلِّ غِياب الرَّقابة المُسْتمرَّة.
ومن الأَهميَّة بِمكان، أَنْ تَترافَق كلُّ تلك الإِجْراءات لِتَعْزيز الثِّقة، مع الحدِّ من انْتِشار ظاهرةِ الفَساد، وتَسْهيل إِجْراءات العَمل الإِداريِّ وتَبْسيطها، وكذلك في وَضْع الشَّخْص المُناسب في المَكان المُناسب!. كما وعلى الحُكومة التَّنبُّه إِلى وجوب عدم التَّصْريح بأَهْدافٍ يَصْعب تحقيقها...
وأَمَّا الإِعْلام، فيتجلَّى دَوْره من خلال تَغْليب المَصْلحة العليا على زَواريب تَسْجيل النِّقاط السِّياسيَّة بين الأَفْرقاء، إِذْ إِنَّ البِناء حين يَسْقط –لا سَمَح اللّه– فَعلى رَأْس الجَميع يَكون ذلك... وبالتَّالي فالمَطْلوب إِظْهار أَعْلى درجات الحسِّ والمَسْؤوليَّة الوطنيَّيْن!.