إن سعي التيار الوطني الحر كحزب سياسي لديه برنامج وطني للإمساك بالسلطة الإجرائية والقرار الإداري في الجمهورية أمر مشروع، إذ إن حقّ تولّي المسؤولية الكاملة لإدارة البلاد هو حق ديمقراطي.
وتتطلب مسيرة النهوض بالبلد من أزماته المتنوعة والمتعددة وضع برنامج إصلاحي واضح وقابل للتنفيذ. ولا شك في أن سيطرة حزب أو تيار سياسي محدد على الوزارات والمؤسسات والإدارات العامة يسهل عملية التنفيذ والتغلب على الصعوبات التنظيمية، علماً بأن السيطرة على الدوائر الإدارية والتنفيذية والأمنية والعسكرية تفترض أولاً فصل السلطة التشريعية عنها، لإتاحة تفعيل آليات المساءلة والمحاسبة. ولا بد من استقلالية كاملة ونزاهة القضاء يرافقها إلغاء الحصانات الإدارية.
لكن كل ذلك لا يجوز ديمقراطياً إذا ارتكز الحزب أو التيار على أسس تضع بعض المواطنين في مكانة متفوّقة على مكانة مواطنين آخرين لمجرد انتمائهم الى دين محدد منذ ولادتهم. كما أن انحصار الحزب أو التيار بفئة من المواطنين تحدد منذ الولادة ومن دون أي خيار أو استحقاق يعد مثالاً للتمييز العنصري. فالانتماء الديني ليس إنجازاً ولا يفترض أن يستحق أي مواطن امتيازات ومراكز في السلطة الحاكمة لمجرد انتمائه الى طائفة أو مذهب.
وبالتالي، فإن تكرار مقولة «استعادة حقوق» طائفة محددة هو شعار غير موفق ومناقض لقيام الجمهورية. أما الشعار الديمقراطي الصادق فيطالب باستعادة حقوق جميع المواطنين وتحريرهم من التبعية لأي مرجع أو توجه فئوي. ولا بد أن يركز التيار أو الحزب الحاكم على الخطاب الذي يجمع الناس، لا على الخطاب الذي يفرقهم الى طوائف ومذاهب، حتى لو كان ذلك للمطالبة بقيام التوازن بينها. فالعلاج الطائفي لمشاكل الانقسام بين أبناء البلد الواحد أشبه بمداواة المرض بالمرض، ليس فقط لأن التوازن العددي غير قائم بين المسلمين والمسيحيين، بل لأن الولاء للوطن لا يمرّ بدور العبادة بل بالمدرسة الوطنية الجامعة للمواطنين والمواطنات. وبدل أن يسعى بعض المسؤولين الى «استعادة حقوق» طائفتهم «المسلوبة» من أجل قيام الجمهورية القوية، أليس الأجدى بهم وضع خطة جدية لإصلاح التعليم الرسمي وتطوير كتاب التربية الوطنية وتوحيد تعليم تاريخ بلدهم في جميع المدارس؟
لا بد من التسليم بأن المساواة بين المواطنين على أساس المناصفة الطائفية في لبنان غير ممكنة بسبب الفارق العددي الواسع بين طائفة وأخرى. فالمناصفة الطائفية تستدعي تجاوز قاعدة المساواة التي تشكل الركيزة الأساسية للديمقراطية. فلا يمكن قيام ديمقراطية من دون مساواة. ولا استقرار ووحدة وطنية حقيقية والتفاف جامع حول الدولة ومؤسساتها من دون مساواة بين المواطنين والمواطنات.
أن يستحق أي مواطن امتيازات لمجرد انتمائه الى طائفة مخالف للقواعد الديمقراطية
إن انتخاب مؤسس التيار الوطني الحر ورافع شعار الإصلاح والتغيير العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية أعطى أملا لكثير من اللبنانيين بقيام جمهورية حقيقية واستعادة حقوق المواطنين والمواطنات في بلدهم ودولتهم والإدارات العامة. ولا شك في أن أحد بواعث ذلك الأمل تركيز رئيس الجمهورية على الخطاب الوطني الجامع لا على شعارات طائفية وتمييز بين الناس على أساس ديني؛ وهو الذي يعلم أن سرّ صمود اللبنانيين ووفائهم لبلدهم اثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 لم يكن بسبب انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، بل بسبب ولائهم للبنان. فاللبنانيون في بعض المناطق الشمالية والجبلية تكاتفوا مع آخرين في الجنوب والبقاع من دون الأخذ بأي حسابات طائفية، ولم يطالب أحد بمناصفة التضحيات ولم يشعر أحد بالظلم أو بعدم المساواة بسبب انتماء معظم الشهداء والجرحى والمعوقين الى طائفة محددة...
لكن يبدو أن الشعارات التي يرفعها بعض الوزراء في الحكومة اليوم تدل على بوادر العودة الى أبعد بكثير من أحداث عام 2006، أي الى التوتر الذي كان سائداً قبل اندلاع الاقتتال الأهلي في سبعينيات القرن السابق. فبحجة اختلال التوازن الطائفي والخشية من عودة التوتر، يمكن اليوم إلغاء دورة توظيف في أي مؤسسة أو إدارة رسمية حتى لو كانت المباراة عادلة والامتحانات دقيقة والكفاءة مثبتة والحاجة ملحّة. ويدّعي البعض أن إلغاء دورة توظيف لا تراعي المناصفة بين الطائفتين يهدف الى معالجة الخلل وتخفيف التوتر. لكن أليس التحلي بالقيم الوطنية الجامعة في الحياة العامة وترك الدين والعبادة للحياة الخاصة السبيل الأصح والأنجح لمعالجة المشكلة وبناء الدولة الجامعة؟ وأليس الاستمرار في تذكير الناس بأن هناك ما يفرّق بينهم منذ ولادتهم مشجّعاً على مزيد من الانقسام وواعداً بمزيد من التوتر في المستقبل؟
المطلوب اليوم إصلاح جديّ وتغيير جديّ. والمطلوب شجاعة وابتكار. فليجرّب القيّمون على الدولة معيار الانتماء الى الدولة المدنية الموحدة الديمقراطية الراقية، وليتم اختيار الموظفين من اللاطائفيين اللافئويين، وليُمتحن المتقدمون إلى الالتحاق بمؤسسات الدولة بمدى تكاتفهم مع إخوتهم وأخواتهم في الوطن لا بمدى عصبيّتهم الدينية.