لقد شكل انتصار المقاومة في 25 أيار 2000 نقطة تحوّل هامة في الصراع العربي ـ الصهيوني.. لقد أثبتت المقاومة القدرة على إلحاق الهزيمة بالقوة الصهيونية، التي قيل إنها لا تقهر، وحطمت أسطورة الجيش الصهيوني، وأجبرته على الرحيل، تحت جنح الظلام، عن معظم الأراضي التي كان يحتلها في الجنوب والبقاع الغربي بلا قيد ولا شرط أو أيّ مقابل، للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، فخرج مدحوراً ذليلاً تاركاً وراءه جيش العملاء الذي انهار، ولم يستطع الصمود في وجه زحف الجماهير الجنوبية نحو القرى والبلدات، محررة إياها الواحدة تلو الأخرى في صورة عكست مستوى الانهيار الكبير الذي أصاب الجيش الصهيوني وعملاءه من جهة، والنصر المدوي والمشهود الذي حققته المقاومة من جهة ثانية.
غير أنّ التوقف عند انتصار المقاومة إنما يستدعي التوقف عند العوامل التي أدّت إلى صنع النصر، وذلك لاستخلاص الدروس والعبر، والاستفادة منها في مواصلة معركتنا مع العدو الصهيوني لتحرير أرضنا التي لا يزال يحتلها في جنوب لبنان وفلسطين والجولان.
إنّ انتصار المقاومة في 25 أيار 2000 لم يكن ليتحقق لولا توافر العديد من العوامل التي تضافرت جميعها لتمكن المقاومة من صنع هذا النصر، الواضح والساطع، بلا أيّ لبس، على الجيش الصهيوني الذي لم يعرف قبل ذلك مثل هذه الهزيمة، ولم يجبر على مغادرة أرض احتلها بقوة المقاومة من دون أن يحصل على جوائز، كما حصل في اتفاق كامب ديفيد بين النظام المصري والكيان الصهيوني عام 1979.
بالتوقف أمام العوامل التي صنعت النصر العظيم يمكن تسجيل عشرة عوامل هي:
العامل الأول: وهو العامل الأساسي والأهمّ، من دونه ما كان بالإمكان تحقيق النصر، وهو المقاومة المسلحة التي أتقنت فنون قتال حرب العصابات، واستفادت من تجارب حركات التحرر العالمية التي واجهت جيوش احتلال، وانتصرت عليها بعد نضال مديد، وأضافت إلى هذه التجارب خاصياتها اللبنانية وإبداعاتها، وتمكنت من شنّ حرب استنزاف متواصلة ضدّ جيش الاحتلال الصهيوني وعملائه دون توقف، وجعلت استمرار هذا الاحتلال مكلفاً للكيان الصهيوني. غير قادر على تحمّله، ما اضطره أخيراً إلى أخذ قرار الهروب من لبنان من دون أيّ ترتيبات تسمح له بالتقليل من حجم وآثار الهزيمة عسكرياً، وسياسياً.
العامل الثاني: وجود قيادة على رأس هذه المقاومة تملك مشروعاً استراتيجياً للتحرير، وتتمتع بالوعي والمصداقية والصلابة والحزم والجرأة، والقدرة على إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، والتعامل مع التعقيدات والصعوبات بحنكة وبراعة جنّبت المقاومة الوقوع في المطبات، ووفرت لها المناخات المواتية على المستوى الوطني اللبناني لأجل التفرغ لمواجهة الاحتلال الصهيوني.
العامل الثالث: عدالة القضية التي تناضل من أجلها المقاومة، والتي تنبع من وجود احتلال لأجزاء من الأراضي اللبنانية، وعدوان صهيوني متواصل عليها وعلى الشعب اللبناني، وسيادته، واستقلاله الوطني.
العامل الرابع: قوة العقيدة التي تشكل ثقافة المقاومة، في نضالها المشروع لتحرير الأرض وردع العدوان، وهذه العقيدة تستند إلى الفهم الثوري للإسلام الذي يحضّ على الجهاد في مواجهة الظلم والعدوان حتى الشهادة، أو تحقيق النصر على العدو.
العامل الخامس: استنزاف العدو وإنهاك جيشه، وإضعاف روحه المعنوية عبر الضربات المتواصلة التي كانت تنفذها المقاومة، والتي أدّت إلى رفع كلفة الاحتلال مادياً، وبشرياً، وجعلتها عبئاً على الكيان الصهيوني غير قادر على تحمّلها، وتفجّر التناقضات داخله، وحدوث انقسام عميق بين اتجاهين: اتجاه يدعو إلى الانسحاب للخروج من المستنقع اللبناني، واتجاه يدعو للبقاء فيه خوفاً من التداعيات السلبية على الكيان الصهيوني.
العامل السادس: المعادلة الثلاثية المتمثلة في التكامل بين الجيش والشعب والمقاومة، لا سيما الاحتضان الشعبي للمقاومة، خصوصاً في الجنوب والبقاع الغربي، حيث تحمّل الناس، وصمدوا في وجه الاعتداءات الصهيونية الوحشية التي استهدفت زيادة معاناتهم لإحداث الشرخ بين الشعب والمقاومة، وكان أشدّ هذه الاعتداءات التي سبقت الهزيمة الصهيونية عام 2000، عدوان تموز سنة 1993، والذي سُمّي «بتصفية الحساب» وعدوان نيسان سنة 1996 الذي أطلق عليه اسم «عناقيد الغضب». هذا الصمود الشعبي وتحمّل المعاناة ما كان ليحصل لولا شعور الناس وإيمانهم بأنّ هناك مقاومة جدية، وتتمتع بمصداقية عالية، وهي تضحي في سبيلهم، ويستشهد قادتها في مواجهة الاحتلال، كالشهيد السيد عباس الموسوي أمين عام حزب الله، والشيخ راغب حرب إمام بلدة جبشيت. كما أنّ هذه المعادلة الثلاثية تعزّزت في عهد الرئيس المقاوم العماد إميل لحود الذي حمى المقاومة ووقف بصلابة في وجه الضغوط والإملاءات الأميركية وأكد رفض محاولات النيل من شرعيتها وتمسّكَ بقوة بحقوق لبنان في أراضيه ومياهه.
العامل السابع: البعد الاجتماعي للمقاومة، كان هو أيضاً له تأثيره في جعل الناس يتحمّلون الآلام ويصبرون ويصمدون ويستمرّون في دعمهم للمقاومة وعدم التخلي عنها. تجلى هذا البعد في وقوف قيادة المقاومة إلى جانب الناس عندما تتعرّض منازلهم، ومحلاتهم، ومصالحهم للقصف الصهيوني، وتصاب بالتدمير، وتعمل من خلال مؤسسة «جهاد البناء» على إعادة أعمارها وترميمها الأمر الذي جعل الناس يشعرون بمصداقية المقاومة، ومدى تفانيها في سبيلهم، فزاد احتضانهم لها.
العامل الثامن: تمكّن المقاومة من تطوير أساليبها في مواجهة عدو يمتلك إمكانيات وقدرات قتالية هائلة ومتطوّرة، هي الأحدث في العالم، حيث استفادت المقاومة من خبرات وتجارب حركات المقاومة المنتصرة ضدّ الاحتلال، وطوّرت في وسائلها مستفيدة من التطور الحاصل في العلم والتقنيات الحديثة في قتال حرب العصابات في مواجهة جيوش تمتلك قدرات وتقنيات حديثة.
العامل التاسع: امتلاك قيادة المقاومة القدرة على خوض الحرب النفسية ببراعة كبيرة مستفيدة من إنجازات المقاومة وتراكماتها، وتجلى ذلك بشكل واضح في انقلاب المعادلة التي كانت سائدة طوال المراحل السابقة من الصراع العربي الصهيوني، والتي كانت تظهر العدو أكثر قدرة على خوض هذه الحرب، وكانت تفعل فعلها في الشارع العربي، وتصيب معنوياته بالإحباط والانهيار، على خلفية الهزائم المتتالية للجيوش العربية أمام الجيش الصهيوني، فيما معنويات الرأي العام الإسرائيلي كانت تشهد ارتفاعاً نتيجة لذلك. لقد نجحت قيادة المقاومة، وخاصة قائدها السيد حسن نصرالله في جعل الرأي العام الإسرائيلي يشكك في مصداقية قياداته، ودفعه إلى تصديق كلّ ما يقوله السيد نصرالله من ناحية، وكذلك نجحت في تعزيز الثقة بالمقاومة وقدرتها على تحقيق النصر لدى الشارع اللبناني والعربي.
العامل العاشر: دور إعلام المقاومة في رفع معنويات الجمهور اللبناني والعربي، والتأثير على معنويات الرأي العام الإسرائيلي. فقد نجح تلفزيون المنار في نقل الصور الحية لعمليات المقاومة خلال اقتحامها مواقع الاحتلال والعملاء، وتدميرها ورفع أعلام المقاومة فوقها، وكذلك في أثناء نصب الكمائن لدوريات الاحتلال، والاشتباك معها ووقوع القتلى والجرحى بين الجنود الصهاينة، وكانت مثل هذه المشاهد تكذب في الكثير من الأحيان التصريحات الإسرائيلية التي كانت بداية تنكر سيطرة المقاومين على بعض المواقع، أو حصول قتلى وجرحى في صفوف الجنود الصهاينة، ثم تضطر إلى الاعتراف والإقرار بذلك بعد بث الوقائع على تلفزيون «المنار» الذي بات الأكثر مشاهدة في الكيان الصهيوني كما في الوطن العربي..
العامل الحادي عشر.. الدعم الكبير الذي حظيت به المقاومة على الأصعدة كافة من سورية وإيران الأمر الذي وفر للمقاومة ظهيراً عربياً وإقليمياً وإسلامياً مهماً أسهم إسهامات أساسية في تمكين المقاومة من الصمود وصناعة النصر، ولهذا فإنّ قائد المقاومة السيد حسن نصر الله أكد في احتفالات عيد المقاومة أنّ سورية وإيران شركاء في صناعة هذا الانتصار التاريخي والاستراتيجي..
هذه العوامل إنما نستحضرها اليوم لأهميتها والاستفادة منها، والتأكيد عليها في مقاومتنا المستمرة ضدّ الاحتلال الصهيوني لتحرير ما تبقى من أرض محتلة وحماية سيادة واستقلال وثروات من التهديدات والأطماع الصهيونية.. وهذا ما يتطلب اليوم التمسك بالمقاومة وسلاحها وقوتها الردعية والمعادلة الثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، وان تكون في صلب ايّ استراتيجية دفاعية يجري نقاشها في الآتي من الأيام…