أوحى الحراك الأميركي على خط بيروت–تل أبيب أن الأميركيين يريدون حسم ملفّ ترسيم الحدود الجنوبية اللبنانية. لا مجال للفشل هذه المرة. لم يتضّح فعلاً سبب الإندفاعة التي يقوم بها الأميركيون، وعمّا إذا كانت مرتبطة بإنهاء المشكلة الحدوديّة بين اللبنانيين والإسرائيليين من أجل أن تتفرّغ واشنطن لصفقة القرن، من دون تعكير لبنان على تلك الصفقة، أو ترتبط بقرار الإدارة الأميركية الحاليّة لإنجاز أكبر قدر من التسويات. لا بدّ من إستحضار السيناريوهات المطروحة بشأن مسار ملفات المنطقة، ومنها ما بين واشنطن وطهران، في ظلّ البدء بتبادل الرسائل السياسية التفاوضية على وقع الضغوط الإقتصادية والعسكرية والنفسية والسياسية. لكن بات محسوماً أن العامل الإقتصادي هو الدافع الأساس في حركة الأميركيين بكل إتجاه عالمي. هو المبدأ الذي يرتكز عليه مفهوم العمل في البيت الأبيض حالياً.
لا يرى رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري عاملاً غير "المصلحة الإقتصادية" التي تدفع الإسرائيليين أيضاً للإستعجال ببت ملف ترسيم الحدود. لقد لمس الإسرائيليون أنه لا يوجد شركات دولية مستعدّة للتنقيب عن النفط والغاز في ظل الصراع القائم مع لبنان. تخاف تلك الشركات المتخصّصة العمل في مساحات توتر مفتوح يمكن أن ينفجر في أي لحظة، وتسعى للعمل في أجواء هادئة ومستقرّة. ولذلك يقول بري: لو كانت لدى إسرائيل شركات متخصّصة في هذا المجال لما كان سأل الإسرائيليون عن ترسيم الحدود".
منذ ما يقارب عشرين يوماً أتى الموفد الأميركي دايفيد ساترفيلد إلى بيروت يحمل معه مقترحات للترسيم، ومن ضمنها رفض تل أبيب التلازم في ترسيم الحدود براً وبحراً. كان يريد الإسرائيليون فقط الترسيم في البحر وإبقاء الحدود البريّة عالقة. لكن إلتزام اللبنانيين بموقف موحّد ونهائي وحاسم، وحنكة برّي في التفاوض مع الأميركيين منع واشنطن من المناورة، وألزم الإسرائيليين بالتجاوب مع الشرط اللبناني الأساسي للترسيم في البحر والبر معاّ. وعندما وصل ساترفيلد الى لبنان هذه المرة، حمل معه موافقة تل أبيب على الشرط اللبناني، لكن ظهر ان الإسرائيليين مستعجلون كثيراً لبت الترسيم. وهذا ما يعزز قول بري أن هناك مصلحة إقتصاديّة عندهم لإستثمار النفط والغاز بأسرع ما يمكن. ما يقتضي إستمهال لبنان في التفاوض المطروح منعاً لمناورات إسرائيلية معتادة.
فهل باتت الطريق معبّدة للتفاوض بشأن الترسيم؟ يتحدّث بري أمام زوّاره عن إيجابية ظاهرة، تنطلق من أهميّة الموافقة الإسرائيليّة على خطوة التلازم بين البر والبحر، وإجراء التفاوض في الناقورة برعاية وضيافة الأمم المتحدة، وبحضور وسيط أميركي، "لكن لم يحصل إتفاق بعد حول المدّة الزمنيّة للتفاوض، التي يريدها الإسرائيليّون ستة أشهر فقط، ويرغب لبنان بأن تكون مفتوحة، غير محدّدة بأطر زمنيّة". هذا ما سيسعى ساترفيلد لحلّه في تل أبيب وإزالة العقبات بشأنه.
وإذا كانت إسرائيل مستعجلة للترسيم لأسباب إقتصاديّة لها علاقة بالتنقيب الآمن عن النفط والغاز، فلا يمكن أن تتوقع تنازلا لبنانياً عن شبر حدودي، لأنّ أيّ تنازل لبناني مهما كان بسيطاً يعني التخلي عن ثروات غازية ونفطيّة ومائيّة، لذلك، لن يكون التفاوض بالنسبة الى الإسرائيليين سهلاً، لأن تل أبيب هي الحلقة الأضعف في هذا المجال. وقد لمس الأميركيون أنّ لبنان سيكون عنيداً بالتمسك بحقوقه كاملة براً وبحراً. هذا ما يمكن إستنتاجه من لقاءات الموفدين الأميركيين مع بري في عين التينة. فرئيس المجلس النيابي أبلغ رئيس لجنة الشؤون الخارجيّة في الكونغرس الأميركي اليوت آنغل منذ أيام بأن الأرض غالية على اللبنانيين بدليل المشهد الحدودي: نحن نعمّر ونبني منازلنا على الحدود مباشرة، ولا نخشى من أيّ تهديدات إسرائيلية لأننا أصحاب الأرض، بينما يخاف الإسرائيليون من الإقتراب إلى تلك الحدود لأن الأرض ليست لهم. وطلب بري من المسؤول الأميركي التجوال على الحدود الجنوبية اللبنانية للتأكّد من ذلك، فوعده في الزيارة المقبلة إلى لبنان.
بالإستنتاج، يريد الأميركيون إنجاز الترسيم، لمصلحة أميركية–إسرائيلية سياسية وإقتصادية، ويعتقدون أن لبنان سيقدم على التنازل في هذه الفترة لأسباب إقتصاديّة أيضاً، تتعلق بإستثمار ثرواته الطبيعية في البحر. وإذا كانت المقدّمات تسير بشكل إيجابي حتى الآن، فإنّ التفاوض لن يكون سهلاً، لأنّ الدافع الإقتصادي نفسه عند كل الأفرقاء سيكون هو المحرّك وهو الهدف.