أفرزت الإنتخابات التي شهدها الإتحاد الأوروبي، والتي تميّزت بإقبال هو الأعلى منذ 20 عامًا، وبلغت نسبته 51 %، سلسلة من الوقائع اللافتة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
في أوروبا عُمومًا، صحيح أنّ القوى المُؤيّدة للإتحاد الأوروبي إحتفظت بالأغلبيّة العدديّة في البرلمان الأوروبي، ما يعني أنّ هذا الإتحاد ليس على طريق التفكّك في المدى المنظور، لكنّ الأصحّ أنّ صفحة الثنائيّة الحزبيّة الحاكمة قد طُويت، حيث فاز كل من حزب "الشعب الأوروبي" بما مجموعه 180 مقعدًا، وكتلة "الإشتراكيّين والديقراطيّين" بما مجموعه 152 مقعدًا. وبالتالي إنّ مجموع ما يملكه كلّ من هذين الحزبين يبلغ 332 مقعدًا فقط، بدلاً من 401 مقعد قبل الإنتخابات(1)، علمًا أنّ البرلمان الأوروبي يضمّ 751 مقعدًا موزّعين على الدول الأعضاء، كلّ بحسب تعداده السُكّاني، وبالتالي يُمكن القول إنّ مرحلة الحُكم الثنائي التاريخيّة من قبل هذين الحزبين قد إنتهت، ما يعني أنّ الإتحاد الأوروبي سيتجه في المُستقبل القريب إلى مزيد من التشرذم والضعف، حيث لا يُمكن تمرير أيّ قرار سوى بتسويات واسعة بين كتله المُختلفة، في ظلّ إزدياد الإنقسامات وتعدّد الآراء وحتى المُتضاربة في بعض الأحيان. ولعلّ الإختبار الأوّل لمدى تناغم مُمثّلي 27 دولة ضُمن الإتحاد (إضافة إلى بريطانيا)، سيكون خلال معركة رئاسة المفوّضيّة الأوروبيّة، خلفًا للرئيس الحالي جان كلود يونكر، علمًا أنّ فوز أي مُرشّح يتطلّب الحُصول على ما لا يقلّ عن 376 صوتًا من نوّاب البرلمان الأوروبي، ومع الإشارة أيضًا إلى أنّ أولى بوادر الصراع على المنصب بين "الشعب الأوروبي" و"الإشتراكيّين والديقراطيّين"، أطلّت برأسها سريعًا. ويُمكن القول إنّ أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط التقليديّة التي كانت سيطرت على الإتحاد منذ فترة طويلة، فقدت أغلبيّتها لأوّل مرّة ضُمن البرلمان الأوروبي، الأمر الذي فسّره أكثر من خبير إنتخابي بأنّه رفض من جانب أغلبيّة الناخبين الأوروبيّين للوضع الراهن. من جهة أخرى، وعلى الرغم من التقدّم الواضح لأحزاب اليمين في أوروبا عُمومًا، وبخاصة في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، فإنّ هذه الأحزاب لا تزال بعيدة من الإمساك بأغلبيّة داخل البرلمان الأوروبي، علمًا أنّ الخلافات في ما بينها تحول دون تضامنها في برنامج سياسي واضح ومُوحّد. لكنّ الأكيد أنّ موجة شعبيّة واسعة وتصاعديّة باتت في حضن الأحزاب اليمينيّة والقوميّة، رفضًا لسياسات إستقبال المُهاجرين ودمجهم بالمُجتمعات الأوروبيّة، وتأييدًا لمنح المزيد من السُلطات والصلاحيّات للمجالس التشريعيّة ضمن الدُول الأوروبية تبعًا لخصائص ولعادات ولتقاليد كل منها، وليس لقيادة مُوحّدة في بروكسل.
في فرنسا، الدولة التي تُعتبر من ضُمن أبرز قيادات الإتحاد الأوروبي، أظهَر فوز حزب "التجمّع الوطني" برئاسة مارين لوبان بالمرتبة الأولى، مُتقدّمًا على قائمة "الجُمهورية إلى الأمام"، أي حزب رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة إيمانيول ماكرون(2)، أنّ أنصار اليمين المُتطرّف يُواصلون صُعودهم التدريجي في الحياة السياسيّة، إن في فرنسا أو في أوروبا عُمومًا، مع ما يعنيه هذا الواقع من تعميق مُنتظر للإنقسامات في دول الإتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي تستضيف أعدادًا كبيرة من المُهاجرين. وكان لافتًا في فرنسا أيضًا، تقدّم حزب "الخُضر" إلى المرتبة الثالثة بشكل مفاجئ يعكس تأثّر مجموعات كبيرة من الناخبين بالقضايا البيئيّة وبالملفّات الحياتيّة المُباشرة، بعيدًا عن الإصطفافات السياسيّة الضيّقة. وتزامن ذلك مع تراجع حركة "فرنسا المُتمرّدة" اليساريّة المُتشدّدة، ومع بقاء "الحزب الإشتراكي" ضمن البرلمان بعد نجاح خُطة تحالفه الإنتخابي مع حركة "ساحة عامة". وكل ما سبق يدلّ على تغيّر في الواقع السياسي الفرنسي الداخلي، وحتى لو تمكّنت الحُكومة الفرنسيّة الحاليّة من الإستمرار في الحُكم، فإنّ سُلطة الرئيس ماكرون ستضعف أكثر فأكثر دون أدنى شك، خاصة مع تعاظم قُدرات المُعارضة التي صارت بقيادة "التجمّع الوطني".
وهواء التغيير الذي يلفح التوازنات الحزبيّة والسياسيّة في أوروبا–إذا جاز التعبير، طال بريطانيا حيث تراجع موقع كل من الحزبين التاريخيّين، أي "المُحافظين" و"العمّال" أكثر فأكثر، حيث حلّ الأوّل في المركز الثالث وحلّ الثاني في المركز الخامس، ليجمعا معًا أقل من ربع الأصوات! وكان لافتًا صُعود نجم أحزاب "بريكست" و"الليبراليّين الديمقراطيّين" و"الخضر"، علمًا أنّ حزب "بريكست" بقيادة نايجل فاراج نجح في إنتزاع المركز الأوّل، بحُصوله على 33 % من الأصوات، ليُسيطر على 28 مقعدًا.
وبالنسبة إلى ألمانيا، بقي "الحزب المسيحي الديمقراطي" بالتحالف مع "الحزب المسيحي الإجتماعي البافاري" في المركز الأوّل، مع 28 % من أصوات الناخبين، لكنّ موقع هذا التحالف بقيادة المُستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تراجع مُقارنة بما كان عليه في الإنتخابات السابقة. ونجح حزب "الخُضر" في ألمانيا أيضًا من التقدّم إلى المركز الثاني في نتيجة لافتة جدًا، في ظلّ تراجع الحزب "الإشتراكي الديمقراطي"، شريك الإئتلاف الحاكم، إلى المركز الثالث. ومن غير المعروف بعد ما إذا كان إئتلاف ميركل سينجح في إمتصاص هذه الضربة الجديدة التي تلقّاها، بعد سلسلة من الخسائر في الإنتخابات المحلّية التي مُني بها خلال المرحلة الأخيرة.
وبالإنتقال إلى إيطاليا، تصدّر حزب "الرابطة" بقيادة ماتيو سالفيني الإنتخابات، في دليل آخر على القُوّة المُتزايدة لليمين المُتشدّد في إيطاليا، وفي كثير من الدول الأوروبيّة.
في الخُلاصة، أثبتت الإنتخابات الأوروبيّة أنّ الناخبين لا يتمسّكون بشكل أعمى بحزب مُحدّد، بل يُبدّلون وجهة تصويتهم تبعًا لمعايير عدّة، تأخذ في الإعتبار، واقعهم المعيشي والحياتي عُمومًا، والسياسات المُتبعة في دولهم، والعقائد والشعارات المرفوعة من قبل القوى السياسيّة، ومدى تطبيق الأحزاب لبرامجها... على أمل أن يلفحنا جزء من هذه المعايير في لبنان وفي مُختلف دول العالم الثالث، بعيدًا عن التعصّب الأعمى من جهة وعن التزلّف الدُنيوي من جهة أخرى!.