عكس حلّ الكنيست الـ 21، وتحديد موعد الانتخابات المبكرة في الـ 17 من أيلول/ سبتمبر المقبل، وفق السياقات والعوامل التي أدّت إليهما، عدة مستويات من الفشل الذي واجهه رئيس حزب «الليكود»، بنيامين نتنياهو. وهو فشلٌ يضع مصيره على المحكّ، ما لم ينقذه تلاعب بالمواعيد القضائية التي تنتظره
فبعد الفوز المفترض الذي حققه معسكر اليمين في الانتخابات السابقة، لم ينجح نتنياهو في تأليف حكومة تستند إلى الانتصار الذي بالغ في الاحتفاء به. لم تفلح كل محاولات نتنياهو لجذب عضو كنيست واحد من أيٍّ من الكتل الأخرى، وهو ما كان كفيلاً بتغيير المسار الحكومي والانتخابي في إسرائيل، بعدما أخفق الرجل أيضاً في تطويع أفيغدور ليبرمان عبر التلويح بالانتخابات المبكرة.
في أعقاب فشل المباحثات العلنية والسرية، بهدف تأليف حكومة يمينية برئاسته، وجد نتنياهو نفسه في نهاية المطاف أمام خيارين: إما نقل مسؤولية تأليف الحكومة المقبلة إلى شخصية أخرى، وفق ما تنصّ عليه القوانين التي تنظم تداول السلطة، وهو ما رأى فيه نهاية لحياته السياسية وتهديداً لمصيره الشخصي، كونه قد يؤدي به إلى السجن، أو الذهاب إلى جرّ الدولة بأكملها إلى انتخابات بعد أقلّ من شهرين على الانتخابات السابقة. وهكذا، يبدو واضحاً أن حلّ الكنيست في هذه المحطة بالذات لم يكن إلا نتيجة تقاطع مجموعة سياقات وعوامل داخلية، ساهمت في إنضاج هذا المسار غير المسبوق في تاريخ إسرائيل. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تجرى فيها انتخابات مبكرة؛ إذ إن أغلب الانتخابات الإسرائيلية هي انتخابات مبكرة. وصحيح أيضاً أنها ليست المرة الأولى التي يفشل فيها رئيس مكلّف بتأليف الحكومة. لكنها المرة الأولى التي تجرى فيها انتخابات مبكرة قبل تأليف الحكومة التي كان يفترض أن تنبثق من الانتخابات السابقة.
انطوى قرار حلّ الكنيست على مجموعة أبعاد يتشكل منها هذا الحدث السياسي بذاته وسياقاته ومفاعيله، منها ما يتصل بعلاقة الدين بالدولة، وتحديداً موقف «الحريديم» من التجنّد في الجيش، والموقف من موقعهم ودورهم في المنظومة السياسية، وأخرى ترتبط بألاعيب نتنياهو التي تهدف إلى محاولة تحصين نفسه قانونياً أمام القضاء لمنع محاكمته، وثالثة تتعلق بطموحات رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان، والصراع الذي تداخلت فيه العوامل الشخصية بالقضايا السجالية. لكن هذا الحدث الناتج من ديناميات داخلية، يأتي أيضاً في سياقات إقليمية مفصلية على مستوى المنطقة، وتحديداً ما يتصل بـ«صفقة القرن»، وفي وقت يشتدّ فيه الصراع الأميركي ــــ الإيراني ويبلغ مرحلة حساسة ستكون لها مفاعيلها الاستراتيجية على الأمن القومي الإسرائيلي وعلى المعادلات الإقليمية.
بالإجمال، منذ قيام إسرائيل عام 1948، حدّد «الحريديم» موقفهم الحاسم بخصوص عدم التجنّد في الجيش، انطلاقاً من خلفيات «شرعية» دينية يهودية، وفق المدرسة «الحريدية» التي لها رؤيتها الخاصة من أصل وجود الدولة ومن مضمونها العلماني، هذا فضلاً عن قلقهم الجدّي على الهوية الدينية (الحريدية) نتيجة الاندماج في الجيش. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحتدم فيها السجال بين الأحزاب السياسية حول تجنّد «الحريديم»، بل جرت سابقاً أكثر من محاولة تشريعية لتنظيم تجنيدهم، تدخلت فيها المحكمة العليا التي أبطلت قوانين، وحدّدت موعداً من أجل التوصل إلى صيغة تنظم تجنّدهم في الجيش وفق ما يلبي مطالب الأخير وعلى قاعدة المساواة في توزيع العبء. وامتداداً لهذه المساعي التي تنطوي على أبعاد أيديولوجية وسياسية واقتصادية، كانت هذه القضية ولا تزال موضع سجال بين أطراف الحكومة السابقة، وعلى رأسهم وزير الأمن السابق، ليبرمان.
بعد فرز نتائج الانتخابات السابقة، بدا أن ليبرمان قدّر أن حاجة نتنياهو الماسّة إلى تأليف الحكومة تمنحه أوراق ضغط نوعية كي يفرض استكمال سنّ قانون يفرض على «الحريديم» التجنّد في الجيش، وهو ما سبق أن تم الاتفاق عليه مبدئياً في عهد الحكومة السابقة. لكن حاجة نتنياهو إلى تأييد «الحريديم» حالت دون ممارسة ضغوط فعلية عليهم من قِبَله، وخاصة أن ليبرمان لم يقبل أي مساومة في هذا المجال، بعدما أدرك أنه إذا تألفت الحكومة من دون حسم هذه القضية، فستكون الكلمة العليا في الحكومة للحريديم الذين يملكون 16 مقعداً في مقابل خمسة مقاعد هي حصة «إسرائيل بيتنا».
التحدّي الأكبر يكمن في مفاعيل التزامن بين موعد الانتخابات والإجراءات القضائية
في المقابل، كان نتنياهو يطمح إلى تحصين نفسه قانونياً، وإلى تقييد صلاحيات المحكمة العليا خلال ولاية الكنيست الذي حلّ نفسه أول من أمس، على أمل أن يحول ذلك دون محاكمته. ولهذه الغاية، كان لا بد من تأليف الحكومة كي تنطلق في هذا المسار، ومن هنا كانت حاجته إلى دعم «الحريديم» والأحزاب الأخرى، التي ظهر أن نتنياهو مستعدّ لأن يقدم لها ما تطلبه مقابل إنقاذ نفسه. لكن الذي حصل بعد حلّ الكنيست قد يكون بدّد رهاناته؛ إذ إن موعد الانتخابات الجديد يقع بعد جلسة الاستماع إلى نتنياهو، والتي يفترض أن يعقبها تقديم لوائح اتهام بحقه بشكل رسمي، في وقت لن يكون فيه موجوداً قانون تغليب الكنيست على المحكمة العليا (الذي يقيّد صلاحياتها)، أو قانون الحصانة الذي يحصّنه من المحاكمة. وهو ما رأى فيه معلق الشؤون الحزبية في صحيفة «هآرتس»، يوسي فيرتر، بداية العدّ التنازلي لنهاية عصر نتنياهو.
مع ذلك، لفتت تقارير إعلامية إسرائيلية إلى أن فشل نتنياهو في تأليف حكومة جديدة نابع بشكل أساسي من صراع شخصي بينه وبين ليبرمان، متحدثة عن أنه كانت هناك تلميحات أولية إلى أن ليبرمان يعتزم إفشال المفاوضات الائتلافية فور صدور نتائج الانتخابات الأخيرة، وهو ما تجلّى عندما هاتف نتنياهو جميع رؤساء الأحزاب المرشحة للدخول في ائتلافه، باستثناء ليبرمان، الذي لم يُجب على الاتصال الهاتفي. لكن نتنياهو راهن على أن ليبرمان سيعاود الاتصال به، وهو ما لم يحصل. والجدير ذكره، هنا، أن نتائج الانتخابات هي التي هيّأت الأرضية لهذا المسار، ولو أن معسكر اليمين نال 61 عضو كنيست من دون حصة ليبرمان، كما حصل في الانتخابات الماضية عام 2015، لكان نتنياهو ألّف حكومة تستند إلى أغلبية طفيفة، وهو سيناريو تحقق لدى تأليفه الحكومة السابقة، قبل أن يلتحق بها ليبرمان. وبهدف الالتفاف على هذه العقبات، حاول نتنياهو اجتذاب عضو كنيست واحد من أيّ كتلة، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل. وفي هذا الإطار، كشفت التقارير الإعلامية أن نتنياهو عرض على حزب «العمل» المشاركة في الحكومة، وحتى على كتلة «أزرق ــــ أبيض»، إلا أن طوقاً واسعاً كان قد ضُرب حوله هدف إلى منعه من محاولة تعويم نفسه، أو توسيع هامش المناورة لديه.
في كل الأحوال، من الواضح أن التحدي الأساسي الذي سيواجهه نتنياهو خلال الانتخابات المقبلة يتركّز حول مجموع الكتل التي سينالها معسكر اليمين بمعزل عن «إسرائيل بيتنا»، وتحديداً حجم المقاعد التي سينالها حزب «الليكود» بعدما ارتفعت إلى 35 مقعداً خلال الانتخابات الأخيرة. في المقابل، سيسعى ليبرمان إلى توسيع قاعدته البرلمانية، بالاستناد إلى المواقف التي اتخذها في مواجهة «الحريديم»، على أمل أن يؤدي ذلك إلى توسيع قاعدته الشعبية العلمانية مِمَّن يعترضون على الامتيازات التي يتمتع بها «الحريديم». في مقابل هذه المساعي، سيركز نتنياهو وحلفاؤه حملتهم على الترويج لمقولة أن التصويت لليبرمان سيصبّ في نهاية المطاف في غير مصلحة معسكر اليمين، بدليل حلّ الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة، فيما سيسعى ليبرمان إلى الترويج لمقولة أن التصويت لحزبه سيعزز قوة المعسكر العلماني داخل معسكر اليمين، وهو ما سيضعف من قدرة الأحزاب «الحريدية» على الابتزاز.
لكن التحدي الأكبر يكمن في مفاعيل التزامن بين موعد الانتخابات والإجراءات القضائية التي تنتظر نتنياهو، وكيف ستنعكس على الخريطة السياسية والحزبية في إسرائيل، وما إذا كانت القوى السياسية ستخاطر بالارتباط بزعيم تنتظره محاكمات بسبب ملفات فساد ورشوة. وعلى ذلك، بعدما فشل نتنياهو في تثمير نتائج الانتخابات السابقة لتحصين نفسه أمام القضاء، هل ستؤسس الانتخابات اللاحقة لبداية نهاية عصر نتنياهو، أم أن المستشار القضائي للحكومة سيطوِّع إجراءاته بما يمكِّنه من التفلت كما حصل حتى الآن؟ الواضح أنه في حال عدم التلاعب بالمواعيد القضائية والانتخابية، فإن مصير نتنياهو بات على المحكّ.