ربما كان كلام وزير الصحة العامة جميل جبق عن أعداد اللبنانيين الذين "يتعاطون" ادوية اعصاب صادما، وربما لا اذا ما أخذنا بعين الاعتبار الضغط النفسي الكبير الذي يعيش تحته الشعب اللبناني بمختلف مكوناته، ولكن بالحالتين لا يمكن الا الوقوف عند هذه الأرقام التي تدق جرس الإنذار.
30 بالمئة من اللبنانيين يتعاطون ادوية أعصاب بشكل دائم، و30 بالمئة منهم يتعاطونها بشكل متقطع، والعدد المتبقي سيصبح مهيئا بوقت قريب لتعاطي أدوية أعصاب. هذا كلام وزير الصحة بحسب احصائيات يملكها، وهي على حد قوله "شبه دقيقة"، فما هي أسباب تعاطي اللبنانيين لأدوية الأعصاب بكثرة.
"تنتشر ظاهرة تناول الأدوية والعقاقير المهدئة في كل المجتمعات التجارية والصناعية، التي يقوم أفرادها بمهمّات يومية تزيد من الضغوط عليهم، وبالتالي فإن المدن المكتظة واسلوب الحياة السريع هما سببان أساسيان لتوجه المواطنين باتجاه هذه الادوية"، يقول الخبير النفسي محمد بدرا، مشيرا الى أننا في لبنان وفي أغلب مدننا حيث الكثافة البشرية باتت مجتمعاتنا صناعية وتجارية، وأصبحت طبيعة الوظائف تنعكس على الأجهزة العصبية، عبر مجموعة ضغوطات وذلك بعكس المجتمعات الزراعية.
الى جانب هذه الاسباب العامة هناك أسباب خاصة قد تكون متعلقة بكل شخص على حدى، تماما كما هو الحال مع ريم التي قد تكون من المهيئين لتناول ادوية أعصاب بسبب قلق وتوتر دائم لديها جرّاء فقدانها لوالدها قديما. تقول لـ"النشرة: "آثار خسارة والدي ظهرت مؤخرا على شكل خوف من خسارة والدتي، ورغم ان أحد الاطباء وصف لي بعض الادوية المهدئة الا أنني اخترت عدم دخول هذا العالم لصعوبة الخروج منها ولنا في عائلتنا تجارب في هذا المجال".
بالعودة الى الأسباب العامة التي تصيب مجتمعات كاملة، يشير بدرا في حديث لـ"النشرة" الى أننا في لبنان نضيف ان كل المجهودات لتأدية دورنا بالمجتمع الصناعي والتجاري، كغيرنا، ولكن بالاضافة الى ذلك، يعترينا القلق من المستقبل والخوف من المصير، وغياب الاستقرار الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي، باغلب فترات الحياة، ما يجعل مجموع الضغوطات التي يعاني منها الفرد كبيرة جدا ولا يملك حلولا لها لان الحلول خارجة عن نطاقه، فعندها يشعر بالعجز عن مواجهة المخاطر والضغوطات فيتجه نحو الحلول غير التقليدية اي تناول الادوية والعقاقير.
قد يكون بعض الذين يتناولون هذه الأدوية قد قصدوا الاطباء واشتروها بناء على وصفة طبية، ولكن هناك نسبة كبيرة تتناول هذه العقاقير من دون وصفة، مع العلم أن استشارة الطبيب النفسي قد تكون احيانا كافية لعلاج حالات معينة، فلا يكون الفرد محتاجا لأي دواء. يلفت بدرا النظر الى أننا في لبنان نشرنا ثقافة الحبوب المهدّئة، اي ما كان يُعتبر سابقا من أنواع المخدرات، بات مقبولا اجتماعيا، وذلك بسبب الشحن المستمر والدائم لاجهزة الناس العصبية، وعدم توافر الفرص للتنفيس.
لا يتحمل هؤلاء الناس مسؤولية ما وصلوا اليه، ولا يجوز النظر اليهم كمذنبين، فأحيانا كثيرة قد يكون الدواء هو الحل الوحيد المتاح امامهم، فإما يتناولونه وإما ينفجرون، في الشارع ربما، أو ينفسون بارتكاب جرائم. وفي هذا الإطار يؤكد بدرا ان الطب النفسي ينظر الى هذه الفئة من الناس كضحايا لسرعة الحياة وصعوبتها وللنظام السياسي العنفي والاقتصادي المجهول والاجتماعي المتفكك، فلا يجوز الحكم عليهم كمذنبين، إنما ضحايا يجب علاجهم.
ويضيف: "تكمنالمشكلة بالعقاقير بحد ذاتها فهي وإن شكّلت لتكون حلا لانسان يعيش مرة واحدة، الا أن اشكاليتها بوجود جوانب ادمانية، فتصبح غير كافية وغير فعالة فيضطر الفرد لتعاطي حبوب أقوى ومع الوقت يدخل في دوامة يصعب الخروج منها، فيتحول المجتمع الى مجتمع مدمن يعيش تحت سطوة الدواء وتفكيره ليس سويا".
الحلول كثيرة ومنوّعة، اساسها تثقيف المواطنين حول مخاطر التعلق بهذه الادوية، وتأمين "المتنفس" لهم في المدن، سواء عبر المساحات الخضراء، او الشاطىء العام المجاني، المكتبات العامة، ملاعب رياضية مجانيّة، تخفيف حدة الخطاب السياسي، زيادة ثقة المواطن بنظامه الاقتصادي، وغيرها الكثير من الحلول، ولكن في لبنان قد تكون هذه الحلول البسيطة، صعبة، فهل نتجه الى مجتمع مدمن على أدوية الاعصاب؟!.