في توقيت دقيق، دار الاشتباك بين الوزير جبران باسيل والرئيس سعد الحريري. فالبلد على أبواب مرحلة مفصلية. وبدا واضحاً أنّ باسيل يريد أن يمسك بأكبر عدد من عناصر القوة... ولكن، كثيرون يترقبون مسار اللعبة ليتدخّلوا ويُحصّلوا المكاسب أيضاً، وأبرزهم «حزب الله».
يكاد عهد الرئيس ميشال عون يصل إلى منتصف الطريق. ومعروف أنّ العهود الرئاسية في لبنان تتضمن 3 مرحل:
1- في السنتين الأوليين يستجمع الرئيس كل عناصر القوة في الدولة ليتمكن من ممارسة الحكم كما يريد.
2- السنتان الثالثة والرابعة هما اللتان تشهدان عملياً تحقيق أكثر الإنجازات أو الخطوات. إنهما السنتان المفضلتان في كل عهد.
3- في السنتين الأخيرتين ينصرف الرئيس إلى تحضير التمديد أو التجديد أو تأمين الخلف المناسب.
إذاً، في التوقيت، الوزير باسيل يتحرّك اليوم بدينامية عالية ليفرض حضوره ويمسك بأكبر مقدار من القرار، فيما يُفترض أنّ العهد نفسه في الذروة. ويطمح باسيل من خلال ذلك إلى البروز مرشّحاً أقوى لرئاسة الجمهورية. وعملياً، سيكون باسيل بمثابة امتداد لعون، إذا استطاع الوصول إلى بعبدا. وتالياً، يمكن أن تكون معركة باسيل هي البديل لأي تفكير في تمديد ولاية عون.
يقول بعض المتابعين، إنّ باسيل ينطلق من نجاح الدولة (ولو وهمياً) في تسديد شروط «سيدر»، بحيث إنّ المساعدات الموعودة بنحو 11 ملياراً ستصل تباعاً وتمكّن الدولة من الاستمرار. وتالياً، هناك قدرة على استفادة العهد الحالي من هذه المبالغ وأخرى يمكن أن يتم تحصيلها في مؤتمرات لاحقة.
وهكذا، فإنّ الصراع على المواقع هو صراع حول إدارة مبالغ مالية ضخمة منتظرة، خصوصاً إذا تحققت تقديرات بعض المطلعين عن مليارات سيحصل عليها لبنان (والأردن) مقابل سكوته الضمني على توطين جزء من النازحين الفلسطينيين على أرضه، بموجب البنود المقترحة في «صفقة القرن».
كما أنّ مليارات أخرى ستكون في الانتظار، إذا سمحت المناخات في السنوات المقبلة ببدء استخراج الغاز اللبناني من مياه المتوسط. ولذلك، إنّ الصراع اليوم على المواقع الإدارية والأمنية يهدف إلى إجراء عملية مقايضة يستفيد منها «التيار» لترسيخ قدراته في المرحلة الآتية.
ولكن، لماذا ركّز باسيل على «المستقبل»، لا على سواه، في استهدافاته؟
المطلعون يقولون: بين الثلاثي القوي الموجود في السلطة، الماروني- الشيعي- السنّي، الحريري هو «العنصر الأضعف». وأما الأقوى فهو الطرف الشيعي الذي يرتكز إلى محور إقليمي يمتلك الأوراق والسلاح وغالبية القرار في لبنان.
وبين الطرفين، يحاول الماروني أن يحقّق المكاسب. بل إنّ نجاح الطرف الماروني في الحصول على مكاسب من الطرف السنّي مرهون بمدى الدعم الذي يتلقّاه من الطرف الشيعي. والعكس صحيح.
وفي ظل التحالف السياسي الماروني- الشيعي، يدرك الطرف السنّي أنه يخوض في المباشر معركة مع باسيل، ولكن ضمناً مع «حزب الله» الساكت على حملة باسيل. وأما الحريري فهو محشور بالمحور السعودي. ويجد «الحزب» أنّ من المناسب تشديد الضغط عليه، كجزء من المواجهة التي تخوضها إيران ضد المملكة.
وثمة مَن يرى أنّ باسيل رمى بأوراق المفاوضة الخطرة على الطاولة، بما فيها التفاوض على الطائف نفسه، بعدما كان «التيار» قد أعلن المصالحة معه، ولو شكلياً. وأياً تكن دقّة الكلام المنسوب إليه أخيراً عن الطائفة السنّية، فإنّ المناخ العام للانتقادات يبدو واضحاً. فالرئيس عون نفسه، قبل وصوله إلى الرئاسة، وأركان «التيار الوطني الحر» تحدّثوا كثيراً عن مكاسب سنّية تحقّقت في الطائف على حساب المسيحيين في السلطة التنفيذية. وهذا الكلام يتردّد في الأوساط العونية باستمرار. وبقيت لدى «التيار» رغبة في استعادة بعضٍ مما أخذه الطائف. لكن ذلك دونه عقبات كثيرة. ولكن، خارج الطائف وتعقيداته، يبدو باسيل طامحاً إلى إجراء مقايضة جديدة مع الحريري، مستفيداً من الظروف القائمة حالياً، والتي ربما تتيح له تحسين شروط «التيار» وعون في النصف الثاني من العهد والتأسيس لمعركة رئاسية ناجحة.
ويدرك الحريري أنه الحلقة الأضعف. ولذلك، مرَّر العاصفة بأقل الأضرار. وهو ترك لأركان «المستقبل» مهمّة الحرب مع الوزير جبران باسيل، وترك لنفسه دور التهدئة. وسيستخدم كل الأوراق التي تسمح له بمواجهة التنازلات. لكنه مطمئن إلى أنّ التسوية مطلب الجميع، وأنها لن تسقط، وأن ما يجري سيبقى شدّ حبال تحت سقفها.
ولكن، في ظل المعطيات القائمة حالياً، سيكون الحريري أمام استحقاق مهم: هل سيضطر إلى عقد صفقة مع باسيل على غرار الصفقة مع عون؟ وليس في يد الحريري أوراق كثيرة يلعبها، سوى هذه الصفقة، إذا كان هو أيضاً يريد البقاء في رئاسة الحكومة.
وهنا يبرز السؤال الأهم: ما هو دور «حزب الله» والطرف الشيعي عموماً، وكيف ينظر إلى طموحات باسيل؟
سواء تقلّص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط أم لا، فليس متوقعاً أن يتراجع رصيد «حزب الله» كثيراً في الداخل اللبناني. وعلى الأرجح، سيكون مهتماً باستمرار الغطاء المسيحي والسنّي. ولذلك، هو سيدعم باسيل في حملاته، ليأخذ عنه عناء «قصقصة جوانح» الحريرية السياسية في لحظة الاشتباك العنيف السعودي- الإيراني. لكنه سيتلقف الكرة باليد الأخرى ليطمئن الحريري بأنه سيبقى الشريك السنّي الأفضل. إنها فعلاً، لعبة توازنات غريبة عجيبة.