عندما نفّذ الإرهابي عبدالرحمن مبسوط جرائمه في طرابلس، وقع لبنان في أزمة إعلامية تخفي خلفها ضياعاً وسوء تدبير رسمي. هي ليست المرة الأولى التي تتضارب فيها المعلومات، وتختلط الشائعات بالتنبؤات. في كل مرة يدفع البلد ثمن الضياع، وسوء التنسيق، والتسابق الذي يجري على خطين: اولاً، بين المؤسّسات العسكرية والأمنية بأجهزتها المتنوعة التي يسعى كل منها للتفرّد وجني ثمار القبض على القضية، وثانياً، بين المؤسّسات الإعلاميّة التي تقع في شرك السبق الصحفي.
يتكرّر المشهد عند كل حدث، او مشكلة، او ازمة، او كارثة. للدلالة، نعود مثلاً الى يوم سقوط الطائرة الأثيوبيّة قبالة بيروت عام 2010، حينها ساهم الضجيج الإعلامي في رمي المسؤوليات في امكنة عدة: إستنتاجات بالجملة، وتحليلات، وتنبؤات حول صاروخ اصابها، او نتيجة طقس عاصف، او غياب ارشاد المراقب الجوي. كاد الطرف الأثيوبي ان يرمي كرة المسؤولية على لبنان، مستنداً الى ما ورد في إعلامه. ثم تكررت المشاهد في الأزمات المتلاحقة امنيا وسياسيا، و خصوصا عند وقوع تفجيرات إرهابية، وخطف زوار لبنانيين في اعزاز السورية، وإختطاف العسكريين في جرود عرسال.
لم تستفد المؤسسات العسكرية او الأمنية من تلك الوقائع، كي تنظّم خلايا ادارة ازمات، فتجمع بين الاجهزة العسكرية والأمنية في تلك الخلايا، وتضم فريقا اعلاميا من بينه ناطق رسمي، كما تفعل الدول المتحضرة. يقتضي هنا ان يكون الفريق الاعلامي خبيراً ومهنياً، لا منصباً شرفياً.
فالمسؤولية لا تقع وحدها على تلك المؤسسات العسكرية و الأمنية ولا الاعلامية، بل على الدولة اللبنانية بمؤسساتها السياسية التشريعية والتنفيذية التي لم تتفق حتى الآن على مقاربة واحدة لمشروع قانون خلية ادارة الأزمات، الذي ابقته الخلافات والتباينات بين الكتل النيابية أسير الأدراج، وبات راعيه النائب السابق محمد قباني خارج المجلس النيابي. للأسف دخلت الطائفية في لعبة الخلية.
هل نتفرج على الإرباك الذي يصيب اللبنانيين عند كل حادث وازمة؟ وهل يبقى البلد يدفع الأثمان؟.
كان المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم قد سدّ الفراغ إبّان الأزمات السابقة بفعل دوره الإداري والأمني والتفاوضي اثناء ازمتي المخطوفين، وإستطاع أن يرفد الإعلام بمعلومات دقيقة ايضا في الأوقات الصعبة، وحاول ان يحدّ من الأضرار قدر الإمكان، الى أن مرّت المرحلة. فكان المدير، والمفاوض، وسند الاهالي، والناطق. نجح ابراهيم بجدارة. فلماذا لا تفرض الآن الاجهزة العسكرية والأمنية خلية فيما بينها، وتستفيد من تجربة مدير عام الامن العام لإدارة الأزمات وتخصّص فريق التواصل الإعلامي للحد من شطحات إعلاميين، ودحض الأكاذيب وطمأنة الجمهور اللبناني؟.
حتى الساعة لم يفهم كل اللبنانيين ماذا جرى في طرابلس. لم يعثروا على كلام رسمي صريح. لا يمكنهم الإعتماد فقط على تغريدات او تصريحات وزيري الداخلية والدفاع. ليس الوزيران الياس بو صعب وريّا الحسن خبيرين بمحاكاة الراي العام. البلد يحتاج الى متحدث رسمي واحد مسؤول ومهني، يكون إعلامياً بالأساس وليس عسكرياً، يحمل شهادات ويتحدث لغات عدة لمخاطبة الإعلام العربي والغربي ايضاً. عندئذ ستخفف تلك الخلية من الازمات النفسية التي تصيب اللبنانيين، وتساهم في طمأنة السوّاح والمغتربين الخائفين من زيارة لبنان عند سماعهم تلك الأخبار، عبر دوزنة الخطاب الإعلامي الذي ينجرف وراء شائعة او خبر او معلومة غير دقيقة.
الحفاظ على الوطن اهم من الحرية الإعلامية خصوصا اذا كانت تخرق الخطوط الوطنية الحمر، ووطنية الإعلامي يجب ان تكون مرشدَه للحفاظ على امن بلده وعدم الإنجراف خلف الضجيج الذي يخدم الإرهابيين اولاً. لا يجوز السبق الصحفي على حساب الوطن. واذا كانت الموضوعيّة والحياديّة هي من اسس الصحافة، فإنّ الحفاظ عليها ينطلق من الحفاظ على امن المجتمع. وعندما تشذ الصحافة والاعلام عن الدقة، وتصبح اسيرة حسابات السبق الصحافي الذي يُدخلها احيانا في دورة الشائعة، يسقط امن المجتمع وإقتصاده وإستقراره، وتتحقق الأهداف الإرهابية.
ما جرى في طرابلس، يفرض التفكير بهدوء، وإتخاذ القوى الامنية والعسكريّة المبادرة، وتأسيس خلية ادارة أزمات مشتركة، توزع العمل فيما بينها، للتنسيق الجاد والفعال والمسؤول، وضمان ادارة أي مشكلة او حدث، والإطلالة على الرأي العام بخطاب متفاعل لا بيان جامد، عندما يقتضي الأمر. لقد ولّى عصر الإعلام الجامد والتقليدي، ولن تنفع المعالجات الأمنية والعسكرية من دون محاكاة الرأي العام، كي لا يُشغل كل "ذئب منفرد" أو ثعلب، أو دجاجة، البلد بأكمله، ويطيح بكل الجهود التي تبذلها وزارة السياحة مثلاً لجذب السواح الى لبنان.