"تحيط قيادة الجيش اللبنانيين علمًا أنها ستبدأ إضرابًا مفتوحًا يشمل كل القطعات والمراكز والوحدات، وفي كل الثكنات، وهذا الإضراب يُنفذه الجميع من دون استثناء: ضباطًا ورتباء وعناصر... وهذا الإضراب سيستمر حتى تحقيق المطالب".
تخيَّلوا، أيها الناس أن نصل إلى يومٍ نقرأ فيه مثل هذا الخبر، فماذا يحل بالبلد؟
نطرح هذا السؤال وهذا السيناريو لأننا نشهد إضرابات لم يسبق للبنان أن شهد مثلها، ويأتي في مقدمتها إضراب القضاة في لبنان، هذا الإضراب الذي شل عمل المحاكم، وجعل قضايا الناس متوقفة، مع كل ما يعني ذلك من خسائر تلحق بالجسم القضائي أولًا وبالمتنازعين ثانيًا وبالمحامين استطرادًا.
***
هذا الواقع لا يجوز أن يبقى على هذا المنوال: المطلوب اليوم قبل الغد، أو في ثمانٍ وأربعين ساعة على أبعد حد، تأليف لجنة مشتركة من: وزارة العدل، مجلس القضاء الأعلى، نادي القضاة، الجسم القضائي ككل، ويكون من مهام هذه اللجنة:
وضع خطة للمعالجة تكون مرتبطة بمهلة زمنية قصيرة، تمهيدًا للمعالجة النهائية قبل العطلة القضائية.
***
لقد مرَّ أكثر من شهر على إضراب القضاة:
صحيح ان هناك مطالب محقة.
صحيح ان هناك قضاة يتمتعون بالنزاهة ونظافة الكف ورفض الرشوة.
صحيح ان هناك قضاة افادوا من مواقعهم لتحقيق ثروات هائلة،
ولكن هل يجوز معاقبة كل الشعب اللبناني في هذه المواجهة المفتوحة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية؟
***
القضاة يطرحون رفض المس بحقوق افراد السلطة القضائية وضماناتهم، في بنود الموازنة العامة المتعلقة بهم.
ويجدر التذكير بأن أبرز ما يتضمنه مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2019:
اقتطاع 10 في المئة من مساهمة الخزينة في صندوق تعاضد القضاة البالغ 10 مليارات ليرة سنوياً (7 ملايين دولار أميركي)، وحسم جزء من المساعدات الطبية وعائدات الأدوية والمساهمة التعليمية، التي يستفيد منها نحو 550 قاضياً، ونحو 1200 مساعد قضائي.
ومن ضمن المطالب:
إقرار قانون استقلال السلطة القضائية الذي يكرّس الاستقلال الإداري لناحية إجراء التعيينات والمناقلات، والمالي بموازنة خاصة مستقلة، بعد انتخاب القضاة لمجالسهم.
الاعتراض على تحميل القضاة نتائج هدر ونهب المال العام بدلاً من تعزيز وضعهم وإطلاق يدهم للشروع في استرداد الأموال المنهوبة ومكافحة الفساد.
الاستمرار في الاعتكاف والمطالبة بإدراج نص صريح يستثني السلطة القضائية من بنود الموازنة التي تمس بحقوقها وضماناتها.
***
ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، فإن القضاء يؤمن موارد كبيرة لخزينة الدولة، وهو يشكل المورد الثاني بعد الجمارك، ويتقدم احيانًا على عائدات قطاع الاتصالات، خصوصاً مع ارتفاع عدد الدعاوى بنسبة كبيرة.
ولأن الأمر كذلك فإن الحوار بين السلطتين التنفيذية والقضائية يجب ان يكون على بندين:
بند قصير الامد.
وبند طويل الأمد.
فبالنسبة إلى الأول، المطلوب إعطاء وعود جدية بالمعالجة، وتحت سقف هذه الوعود يُفترض بالقضاة العودة إلى قصور العدل والمحاكم.
وبالنسبة إلى البند الطويل الامد، لا بد من البحث جديًا في قضية استقلال القضاء، وهذه المهمة ليست فقط على عاتق السياسيين وحدهم بل على عاتق القضاة أيضًا:
فكما السياسي يسعى إلى تعيين قاضٍ للإفادة من "المونة عليه" في بعض الأحكام. فإن القاضي يتجه احيانًا الى السياسي من أجل ان يحظى بمركز "دسم" ومرموق في الجسم القضائي.
حين يتوقف هذا المسار، تبدأ رحلة الالف ميل نحو تشذيب القضاء من "أَثقال السياسة وأعباء المداخلات".
***
والأهم من كل ذلك العودة إلى العمل وبأسرع وقت، فكيف لسلطة ان تعتكف ضد سلطة؟