العودة للتاريخ تنير درب المستقبل لأن الرجوع للتاريخ وتقليب صفحاته والبحث في تفاصيل أحداثه قاسية كانت أم جميلة بحلوها ومرها هي بمنزلة عملية شحن للذاكرة واستخلاص العبر من الأحداث التي شكلت محطة تحوّل في التاريخ ومقارنتها مع مسار حياتنا ومدى تطابقها مع قناعاتنا ومع تطور ونضوج الفكر ما يسمح بتلمس البوصلة الصحيحة لسلوك طريق أكثر وضوحاً وأقل خطراً متسلحين بزاد إيمان مبادئنا وقيمنا التي تجنبنا الوقوع بالأخطاء عينها مرتين تطبيقاً للقول الشريف «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
صفحات التاريخ تبقى ناطقة بأحداثها مهما حاولنا طيّها ومهما حاولنا تجنب النظر في مدونة أحداثها، فالتاريخ هو الحُكم الُمبرم الذي لا يعرف الرحمة أو الرأفة في ترجمة للقول المأثور «التاريخ لا يرحم» لأن التاريخ نفسه يرفض اللون الرمادي.
لطالما وصف التاريخ بأنه المعلم والملهم، ومجرد العودة إليه تشكل لأجيالنا العربية حصناً من غدر الأيام ومن عثرات الزمن الرديء خصوصاً أولئك الذين يحلمون بمستقبل واعد باسترداد الكرامة والعزة العربية رغم التقهقر والخنوع والإذلال الذي نعيشه.
لكن ما ينتاب أجيالنا العربية حالة مريعة من التيه والضياع نتيجة تزوير متعمّد لأحداث تاريخية مثبتة ومؤرخة ليس في كتب أو على صفحات التاريخ فحسب إنما في الذاكرة الإنسانية، فهناك من يمارس تزوير التاريخ عبر نزع بعض من صفحاته التي تثبت الحقوق العربية وعن سابق تصور بهدف تغييب الذاكرة بتصميم مسبق وصولاً إلى كَيّ الوعي العربي وطمس للحقائق وغسل الأدمغة وتحريف الوقائع وتغييب الأحداث عن أجيالنا العربية.
وفي شحن لذاكرة التاريخ وعودة للماضي للتزود من مفاعيل أحداثه ومقارنتها مع حاضرنا وما يمكن أن يواجه أجيالنا في القادم من الأيام والتاريخ وجدنا التالي:
في عام 1948 وفي أكبر عملية تزوير بريطاني أميركي للتاريخ اغتصبت أرض فلسطين العربية بعد ارتكاب عصابات الهاغاناه الصهيونية أبشع المذابح بحق الفلسطينيين أصحاب الأرض وتهجيرهم قسراً من وطنهم وعن أرضهم بغياب تام للضمير الإنساني وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع لتصبح فلسطين محتلة من الصهاينة بيد أن النخوة العربية أعلنت عن انتفاضتها ذوداً عن الكرامة العربية وتجمعت تحت لواء جيش التحرير العربي ونجحت في الوصول إلى منطقة «صفد» وتحريرها، وكاد جيش التحرير العربي ينجح بتحرير كامل التراب الفلسطيني لولا تواطؤ من بعض مشايخ وأمراء شبه الجزيرة العربية بإعطاء الأوامر بالانسحاب الكيفي من مدينة صفد ومحيطها وبدء رحلة التقهقر العربي.
في العام 1956 لم تتحمل قوى الاستعمار قيام حركة تحرر قومية عربية قادها الزعيم جمال عبد الناصر من مصر فكان قرار الاعتداء الثلاثي على مصر تمثل بالفرنسي والبريطاني مع العدو الإسرائيلي مدعومين من أميركا وحلفائها من العرب وذلك بهدف تهشيم فكرة القومية العربية وتشويه صورة الزعيم القومي العربي. بيد أن نتائج العدوان الثلاثي جاءت عكس ما تشتهي رياح سفن العدوان وقنابل طائراته وذلك بعد إعلان النفير العام في معظم الوطن العربي والوقوف صفاً واحداً للإعلان عن قيام المقاومة الشعبية ضد الاستعمار ونصرة لمصر العربية وشعبها ودفاعاً عن كرامة العرب وذوداً عن القومية العربية.
في العام 1967 كان العدوان الإسرائيلي المزدوج على مصر وسورية في آن واحد ما أسفر عن احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية وصولاً إلى الضفة الشرقية من قناة السويس إضافة إلى احتلال مدينة القدس وهضبة الجولان السورية.
حينها وفي التاسع من حزيران 1967 قرر عبد الناصر تحمل مسؤولية النكسة والتنحي عن جميع مناصبه حفاظاً على كرامة العرب.
بيد أن الشعب العربي ملأ الشوارع والساحات في كل الأقطار العربية يهتف رفضاً للهزيمة وانتصاراً للكرامة العربية وداعماً للقائد العربي القومي الذي انتفض بدوره لكرامة العرب بقمة الخرطوم في شهر آب من العام 1967 حين أعلن عن اللاءات الثلاثة لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بالعدو الإسرائيلي.
إنه زمن الشعب العربي المنتفض لكرامته إنه الزمن الجميل الذي كان فيه للعرب كرامة رغم النكسات ورغم الخيبات.
من يتخذ صفحات التاريخ وأحداثه مرجعاً له وبوصلة نحو الطريق الصحيح سرعان ما يكتشف حجم العبث والتسميم والتزوير في التاريخ والتحريف الإعلامي والثقافي الذي غزا عقل معظم الشعب العربي حتى كدنا نصدق أن عقل الإنسان العربي بات معطلاً بل إنه أضحى غارقاً بسبات عميق.
معظم الأنظمة العربية التي شكلت هدفاً للعدوان الإسرائيلي نسيت مجمل الانتكاسات التي سببها العدو الإسرائيلي وصارت عبارة عن أنظمة تنشد السلام مع أعداء الأمة ومع محتل فلسطين بل أكثر من ذلك فإن تلك الأنظمة ما برحت في سعيها إلى إقامة سلام مع محتل غاصب ولم تتورع عن التآمر على فلسطين وبذل الجهود في سبيل طمس قضيتها وتزوير وقائع احتلالها طمعاً بالقضاء على ما تبقى من كرامة العرب.
تلك الأنظمة العربية طلقت الخجل والوجل وأدارت ظهرها عن لعنة التاريخ وأضحت تطلب التعاون الأمني من شركات أمن العدو الإسرائيلي وذلك لتأمين البقاء على كراسي وعروش السلطة خوفاً من العرب أنفسهم وليس من العدو الإسرائيلي حتى إن معظم الأنظمة العربية صارت تأمن جانب العدو الإسرائيلي مسبب النكسات العربية ولا تأمن جانب من يطالب بمناصرة القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين.
بعض الأنظمة العربية صورت العدو الإسرائيلي بأنه ينشد السلام مع العرب عن سابق تصور وتصميم، على حين الحقيقة هي أن تلك الأنظمة زورت التاريخ وباتت تشكل رأس حربة في مشروع إنهاء القضية الفلسطينية والخلاص منها بأي ثمن وإن كانت الكرامة العربية هي الثمن.
صار الإنسان العربي في بعض البلدان العربية قابلاً بالصلح مع العدو الإسرائيلي المغتصب والمحتل لفلسطين بفضل التضليل الإعلامي وتزوير الحقائق وتغيير الثوابت، وهذا هو الخطر الأكبر خصوصاً إذا ما لاحظنا العمل الدؤوب لإنجاح مرحلة كيّ وعي شعبنا العربي وغسل أدمغته وتغيير قناعاته ومبادئه وتبديلها مع عبور التاريخ.
لا غلو بالقول إننا بحاجة إلى صدمة عسكرية إيجابية تماماً كما حصل في لبنان العام 2000 وفي العام 2006 حين أنعشت الذاكرة العربية وأعيد للكرامة العربية وهجها وأنتجت وعياً عربياً أسس لشعلة دائمة في ذاكرة أجيالنا رغم تشويه صورة المقاومة وإطلاق صفة المغامرة غير المحسوبة على نصر إلهي على العدو الإسرائيلي.
وحتى لا تذهب أحداث التاريخ هباءً منثوراً أو تصبح نسياً منسياً مع مرور الزمن كما حصل في عدوان 1956 وعدوان الخامس من حزيران 1967 فإن العودة للتاريخ ينبغي أن تشكل ضرورة لا بد منها.
إننا لا نكتب من منطلق اليأس إنما نكتب للبحث والمقارنة بين كرامة عربية حفظت رغم الانتكاسات وبين كرامة عربية ضاعت بين الصمود بوجه صفقات مشبوهة أو التصدي للعدوان الإسرائيلي المستمر.
إن التاريخ عرف بصفتين لا ثالثة لهما: صفة البصمة وصفة اللعنة فإما أن نصدق التزوير والترويج وغسل الأدمغة والتخلي عن التزامنا بقضايانا وبالتالي عن كرامتنا العربية فتصيبنا لعنة التاريخ الذي لن يرحمنا والعياذ بالله، وإما أن نحفظ مبادئنا ونتمسك بقيمنا وتوازن عقولنا دفاعاً عن حقوقنا وقضايانا العربية لنترك على صفحات التاريخ بصمة مشرفه تحكي عن عزتنا وكرامتنا العربية.