لم يكن مفاجئاً أن يعمد رئيس الحكومة سعد الحريري الى إعلان تمسّكه بالتسوية الرئاسية ولو من خلال خطاب اعتمد أسلوب الهجوم الدفاعي وكان مخصصاً لمخاطبة الشارع السني، وهو الذي أقرّ بوجود حالة من النقمة لديه.
من المحتمل أن يعمد الحريري الى ادخال تعديلات شكلية على سلوكه السياسي، لكنه على الارجح سيستمر فعلياً في مساره السياسي القائم على «التفاهم الحكومي» بينه وبين الوزير جبران باسيل والذي كان قد بدأ به مدير مكتبه السابق نادر الحريري.
قد تكون المعركة المقبلة امام الحريري خصومه داخل الشارع السني الذين «يعتاشون على أرصفة تيار «المستقبل» لا مع باسيل الذي لا يبدو في وارد الانكفاء وهو الذي يخوض معركة رئاسة الجمهورية منذ تشكيل لوائحه المشتركة مع تيار «المستقبل» في الانتخابات النيابية العام الماضي، ومن ثم مع تشكيل الحكومة.
في الحقيقة لم يحصل مع أيّ رئيس جمهورية سابق أن بدأ البحث في موضوع خلفه منذ بداية عهده. ومن باب الموضوعية فإنّ الرئيس ميشال عون نفسه هو مَن ساهم في فتح هذا الملف، عندما قال في مقابلة صحافية بعد أشهرمعدودة على دخوله قصر بعبدا أنه لا يفكر في التمديد بل بإيصال خلف له يكمل مفهومه السياسي.
كان كلام عون واضحاً أنه يريد لباسيل ان يخلفه في رئاسة الجمهورية.
ونُقل عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قوله خلال جلسات تقييم نتائج الانتخابات النيابية إنّ تيار «المستقبل» لو تحالف مع «القوات اللبنانية» لكانت كتلة «القوات» أكبر بثلاثة مقاعد على الاقل، ولكان تيار «المستقبل» استطاع تسويق لوائحه في شارعه بنحو افضل.
اما الحريري الذي أعفى نادر الحريري من مهماته بعد الانتخابات، فكان تقييمه أن كتلة «لبنان القوي» كسبت عدداً من المقاعد من الحساب الصافي لتيار «المستقبل»، واضعاً اللوم على مسؤولي ماكينته الانتخابية.
لكن الحملة الرئاسية كانت قد انطلقت مع الانتخابات النيابية مع تعداد المقاعد للمرشحين، ودمج باسيل حصة «التيار الوطني الحر» مع حصة رئيس الجمهورية في المجلس النيابي كما في الحكومة.
يومها زكّى باسيل التجديد للرئيس نبيه بري في رئاسة مجلس النواب من خلال «ترك الحرية» لنواب تكتله. ولكن تحت عنوان وصول الأقوى من طائفته، متجاوزاً الصدام العنيف الذي كان قد حصل قبل مدة محدودة بسبب كلامه في قرية محمرش. في الواقع كان باسيل يقول بطريقة اخرى إنّ الكتلة النيابية التي يترأسها تجعل منه المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.
وانطلاقاً من ذلك اندفع باسيل في سياسة توسيع دائرة تأييده داخل الساحة المسيحية وتكريسها شرعياً مساحة صافية له، لا شريك له فيها، اياً يكن هذا الشريك.
ومعه حاول استثمار حضوره القوي داخل السلطة لضمان موقعه كمرشح وحيد للرئاسة. لكن «فائض القوة» الذي يشعر به جعله يصطدم كل لحظة بفريق او طرف، وجعله غير آبه بالخيوط الناعمة للتوازنات الداخلية على مختلف المستويات.
وبدلاً من تحسين وضعه شعبياً، بدت النتائج مغايرة وفق استطلاعات للرأي أجرتها أخيراً دولة غربية تهتم بالوضع اللبناني الداخلي.
وفي العادة فإنّ الاشتباك الطائفي او المذهبي يؤدي الى التفاف الشارع حول مسؤوله السياسي، وهو ما لم يحصل خلال الاشتباك الاخير بين تيار «المستقبل» وباسيل.
في المقابل فإن المرشح الثاني الابرز لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية كان يقف جانباً يتفرج على المشهد الفوضوي، ويراهن على مسار آخر. صحيح ان الانتخابات النيابية أعطته حصة نيابية محدودة، لكنه عمل على تعزيزها اولاً من خلال مصالحته مع «القوات اللبنانية» الفريق الاكثر تضرراً من باسيل، وثانياً من خلال السعي الى تمتين علاقاته مع القوى التي يصطدم بها باسيل ويشتبك معها.
وقد يكون فرنجية يراهن انه بمجرد انعقاد جلسة مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية فهذا يعني فوزه المؤكد. ولذلك قد يرى انّ باسيل المحاصر سياسياً قد لا يجد أمامه سوى دفع «حزب الله» لإقناعه بتعطيل نصاب جلسات انتخاب الرئيس حتى انتزاع موافقة الجميع على انتخابه في تكرار لسيناريو انتخاب الرئيس ميشال عون.
لكن حزب الله لا يبدو حتى الآن في وارد تعطيل نصاب جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وهو يتصرف على اساس ان من المبكر جداً الكلام في موضوع الرئاسة، وان أحداً لم يفاتحه بهذا الملف بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه. وهو لذلك ربما نصح باسيل بتخفيف السلوك العدائي مع مختلف الاطراف السياسية.
وحتى خلال درس مشروع الموازنة كانت الحسابات الرئاسية موجودة وكادت أن تُدَفِّع الجيش اللبناني ومن خلاله الاستقرار الامني فاتورة باهظة.
لكن الحقيقة ان الانتخابات الرئاسية ما تزال بعيدة ومن الخطأ فتح ملفاتها قبل الأوان، أضف الى ذلك خطأ أكبر وهو الاعتقاد بأن حساباتها داخلية فقط.
ففي نهاية 2022 الموعد الطبيعي لخروج عون من قصر بعبدا، هنالك احداث خارجية كبيرة لا بد من ان تؤثر في صورة رئيس الجمهورية المقبل وهي:
1 - التسوية المنتظرة في سوريا والتي يجب ان تترافق مع موعد انتخابات الرئاسة في سوريا سنة 2021.
2 - المفاوضات الاميركية - الايرانية والتي ستطاول ملف النفوذ الايراني في الشرق الاوسط.
3 - مصير السلطة السياسية في اسرائيل بعد الذهاب الى انتخابات جديدة في ايلول المقبل وبالتالي مصير «صفقة القرن» ومستقبل النزاع مع الفلسطينيين.
4 - الانتخابات الاميركية والنتائج التي ستسفر عنها.
5 - اي وظيفة سيتولاها لبنان من خلال رئيسه القادم استناداً الى كل العناوين التي سبقت.
وبالتالي فان الشق الداخلي لهوية الرئيس القادم يبقى مساحة صغيرة امام الشق الاقليمي.
ولا بد من اضافة أخيرة أساسية، وهي أن المعادلة هذه المرة قد تكون أن تطرح واشنطن الاسم في مقابل أن يكون لـ»حزب الله» وفريقه حق «الفيتو»، بخلاف معادلة انتخاب عون والتي خضعت لمعادلة: «حزب» الله سُمى وواشنطن وافقت في نهاية الأمر. وهذا قد يعني انقلاباً كاملاً في حسابات الرئاسة.