مجمَلُ مسارِ التسويات، قيدَ المناقشة، لحروبِ الشرقِ الأوسط وأنظمتِه وشعوبِه، يَعتمد الحلولَ الديمغرافيّةَ، لا السياسيّةَ ولا العسكريّةَ، أي التغييرَ السكانيّ، وبالتالي المنْحى الفيديراليّ. هذه حلول تُضِرّ كيانيًّا بلبنان، إذ ستُحْيي لدى الجماعاتِ اللبنانيّةِ نزعةَ البحثِ عن الأمنِ الذاتيّ الدفين في إطارٍ مناطقيّ. ويترافق ذلك مع إقدامِ فئاتٍ لبنانيّةٍ على الترويجِ لتوطينِ اللاجئين الفِلسطينيّين ودمجِ النازحين السوريّين مُلحِقةً لبنانَ بتلك التسويات. وبَلغت وقاحةُ هذه الفئاتِ حدَّ هجومِها على أيِّ فئةٍ لبنانيّة أخرى، مسيحيّةٍ أو مُسلِمةٍ، تَرفض التوطينَ والدمجَ واتهامِها بالعنصريّةِ واللاإنسانيّة. كأنَّ الوطنيّةَ خيانةٌ والخيانةَ وطنيّة.
عِشتُ شخصيًّا هذه التجربةَ حين كنت وزيرًا للعمل بين 2014 و2016 وتَصدّيتُ بشِدّةٍ للعمالةِ الأجنبيّةِ، بما فيها العمالةُ السوريّةُ والفِلسطينيّةُ غيرُ الشرعيّةِ، ولم أكْتَرِث لحملاتٍ متعدِّدةِ المصدَر ومتنوّعةِ الغاية. ويَسُرُّني اليومَ أن أرى السياسةَ التي انتَهجْتُها تُقتبسُ وتُعتمَدُ مادّةً نضاليّةً وخِطّةَ عملِ عددٍ من الوزراءِ والأحزابِ والتيّارات.
ويؤسِفُني، بالمقابل، أن تواصِلَ الجِهاتُ ذاتُها اللعِبَ على الوترِ الطائفيِّ أو الإنسانيِّ لتطويقِ العاملِين على منعِ التوطينَين و«تعقيدهِم» ودَفعهِم إلى الشعورِ بالذَنْب، فيما هم يحاولون إنقاذَ هوّيةِ لبنانَ الأساسيّةِ وصيغتِه وميثاقِه ووِحدتِه و«اتفاقِ الطائف». ويَكـبَــرُ الأسفُ باكتِشافِنا أنَّ مرجِعيّاتٍ عربيّةً ودوليّةً ـــ دولاً ومؤسَّساتٍ وسفاراتٍ وجمعيّات ـــ تُغذّي هذه الفئاتِ كي تُروّجَ سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا لـــ«فوائدِ» بقاءِ اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريّين وللعودةِ الطوعيّةِ ولانتظارِ الحلِّ السياسيِّ؛ وهي تُموّلُ أيضًا مؤتمراتٍ وندواتٍ لتسويقِ هذه المشاريعِ المشبوهَة.
وأصلًا، إنَّ المساعداتِ الماليّةَ التي وَعدَت الدولُ المانحةُ لبنانَ بها، لبنانُ هو مَمرُّها، لكن مقرَّها هو عند اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريّين. يجب أن يَعرفَ الشعبُ أنَّ هذه الدولَ تُعطينا مالًا كي نُوفِّرَ فرصَ عملٍ لهؤلاء ونَتمكّنَ من استيعابِهم على أرضِنا وقد باتوا يَبلُغون نحو 67% من سكّانِ البلاد.
تذكّرني هذه الحملاتُ بظروفٍ سابقةٍ ـــ عاد إليها أصحابُها من دونِ ندمٍ ـــ حين كانت قوى لبنانيّةٌ سياديّةٌ تُطالب بضبطِ تجاوزاتِ المنظَّماتِ الفِلسطينيّة فتُـتَّهَم بالعَداءِ للقضيّةِ الفِلسطينيّة، وتَرفُض ذوبانَ لبنانَ في محيطِه فتُـتَّهَم بالعَداءِ للعروبة، وتَدعو إلى وقفِ اعتداءاتِ الجيشِ السوريِّ فتُـتَّهَم بالعَداءِ لسوريا؛ حتى كانت حربُ 1975 وكان الاحتلالُ وكان النظامُ الأمنيّ... فتهدَّم لبنانُ ولم تَربح القضيّةُ الفِلسطينيّةُ ولا تَحقَّقت الوِحدةُ العربيّةُ ولا نَجا النظامُ السوريّ...
إنَّ كلَّ مَن يُروّجُ للتوطينِ الفِلسطينيِّ والسوريّ، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، كالإقامةِ المستدامَةِ والدمجِ والتشريعِ والتجنيس، يُعرِّضُ نفسَه لتُهمةِ تنفيذٍ عملانيٍّ للمشروعِ الإسرائيليّ وامتثالٍ فعليٍّ للنظامِ السوريّ وتحقيقٍ مُسبَقٍ لصفقةِ القرن. ولا نَستغْرِبَنَّ أنْ تَفشَلَ صفقةُ القرنِ في كلِّ مكانٍ وتَنجحَ في لبنان. أليسَ توطينُ الشعبِ الفِلسطينيِّ خارجَ وطنِه هو المشروعَ الإسرائيليَّ؟ أليس إبقاءُ أكبرِ عددٍ من النازحين السوريّين السُنّةِ في المجتمعاتِ المضيفَةِ هو هدفَ النظامِ السوريّ؟ أليس تغييرُ ديمغرافيا دولِ الشرقِ الأوسط هو أحدَ مرتكزاتِ صفقةِ القرن؟ لا يستطيع بعضُ اللبنانيّين أن يكونوا مع المشروعِ وضِدَّ صاحبِه.
إنَّ سياسةَ النأي بالنفسِ لا تَنحصِرُ بالنأي عن المحاورِ فقط، بل بالنأي أساسًا عن المشاريعِ المشبوهة. فماذا يَنفعُ لبنانَ إنْ هو ابتعَد عن الحربِ داخلَ سوريا، ودَمجَ النازحين السوريّين داخلَ لبنان؟ وماذا يَنفعُ لبنانَ إنْ هو تَمسَّك بـــ«حقِّ العودة»، ووَطَّنَ اللاجئينَ الفِلسطينيّين على أرضِه؟ وماذا يَنفعُ لبنانَ إنْ هو رَسّمَ حدودَه الدوليّةَ، وضَمَّ مليونَي غريبٍ إلى سكانِه؟
في إطارِ الصراعِ الشيعيِّ/السُنّيِ في المِنطقةِ والتنافسِ الديمغرافيِّ، تَبرُز رغبةٌ لدى فئاتٍ لبنانيّةٍ باستعادةِ منطقِ الأكثريّةِ العدديّةِ (بالاستيراد) على حسابِ الشراكةِ الوطنيّةِ والميثاقيّة التعدديّة. إنَّ هذا المنحى الانتحاريَّ يُسقِط اتفاقَ الطائف من أساسِه ومعه تَسقُط مُسلَّماتٌ كثيرةٌ، فتُحَلِّلُ فئاتٌ لبنانيّةٌ أخرى لنفسهِا أنْ تَبحثَ عن مصيرِها حيثُ مصلحتُها وأمنُها وحرّيتُها. لا توقِظوا الخيولَ النائمة، فنَومُها خفيف.
بصراحةٍ ـــ والصراحةُ تُزعج مَن تحتَ إبْطِه مِسَلَّة ـــ إنَّ اللعبَ بمصيرِ لبنان واللبنانيّين بلغَ الحدَّ الأقصى. تريدون «لبنانَ الكبير»، بهوّيتِه ونظامِه وميثاقِه؟ تَصرّفوا ككِبار. تريدون لبنانًا آخَرَ؟ التَحِقوا بأيِّ دولةٍ تشاؤون وفُكّوا عن اللبنانيّين. لا يَستطيع هذا الشعبُ أن يَبقى مادّةَ رهاناتٍ على الآخَرين ومِن الآخَرين.
منذ خمسيناتِ القرنِ الماضي، والأجيالُ اللبنانيّةُ تَدفعُ ثمنَ الرهانِ على الغرباءِ من المحيطِ إلى الخليجِ بضِفَّتَيهِما، وثمنَ تُعدُّدِ الولاءاتِ، وثمنَ التنافسِ على الحقوقِ والصلاحيّاتِ الفانيةِ والتافهة. إمّا أن نكونَ مؤمنين جميعًا بالتركيبةِ اللبنانيّةِ وبأصولِها وآدابِها فنُوقِفَ العبَثَ بها، وإمّا لسنا بها مؤمنين، فكل فئةٍ تَبني خيمتَها. لا يستطيع اللبنانيّون البقاءَ معلَّقين على الصليب.
يَسعى البعضُ إلى طمأنةِ الشعبِ بأنْ لا توطينَ لأنَّ هناك «حقَّ العودة». العودةُ إلى أين ومتى؟ وأن لا توطينَ لأنَّ الدستورَ يَمنعُ ذلك. ألا يَمنعُ الدُستورُ التجنيسَ الجَماعيَّ والشغورَ الرئاسيَّ وعدمَ إجراءِ انتخاباتٍ نيابيّةٍ من دونِ أسبابٍ قاهرةٍ؟ ألا يَمنعُ الدُستورُ الفسادَ وتعدديّةَ الولاءات وازدواجيّةَ السلاح؟ مع ذلك حَصلَت جميعُ هذه المخالفاتِ الدُستوريّةِ على مَرأى من الدستور... مَنعُ التوطين يَـــتِمُّ بقرارٍ وطنيٍّ صادقٍ مُرفَقٍ بخِطّةٍ تنفيذيّةٍ وبرنامجٍ زمنيٍّ بغضِّ النظرِ عن موقفِ المجتمعَين العربيِّ والدولي. هكذا نُنقذُ لبنان ونَنتقلُ إلى المئويّةِ الثانيةِ للبنانَ الكبير.
في كتابِه «حارسُ الذاكِرة» الصفحة 193، يقول البطريركُ مار نصرالله بطرس صفير إنَّ الرئيسَ الراحلَ الياس سركيس أَسَرَّ له أثناءَ اجتماعٍ بتاريخِ 22 كانون الأول 1978 ما حرفيَّتُه: «إذا كان التوطينُ الفِلسطينيُّ سيَحصُلُ ويُحدِثُ اختلالًا لصالحِ المسلمين في لبنان، فمِنَ الضروريِّ التفكيرُ بالفيدراليّة».
فبماذا نُفكِّرُ اليومَ حيالَ توطينَين؟