الإنسان كائنٌ دينيٌّ. لا يقدر أن لا يكون كذلك أيًّا كان معبوده أو لم يكن. لا أناقش هنا جوهر الدين بل طرق التفكير الدينيّ الّتي تتحكّم بالمتديّنين وبمجتمعاتهم. ما يلفتني في هذه المنطقة المتديّنة من العالم هو "أسرُ الله" لفكر المتديّن الّذي يُحدّد من يكون الله ولا يسمح بإمكانيّة البحث في جوهر الألوهة والدّين خارج ما يؤمن به.
ومباشرةً، خلف أسر الله، يأتي أسر الإنسان لفكرتنا عن الله. هذا لا حريّة تفكير له ولا يحقّ له لا البحث ولا الإجتهاد ولا حتّى الاختلاف، بل عليه قبول الفكر الدّينيّ ومتطلّباته من دون نقاش. يجد هذا العقل في الدّين وسيلةً ليتسلّط على الناس الّذين ولدوا فيه. هنا الفلاسفة يبدون أرحب إذ يتركون البحث في الألوهة والدين مفتوحًا للاجتهاد والاختلاف، بينما العقل الدّينيّ يدّعي حصريّة التّفسير ويحتقر الاختلاف والمُختلِف.
ويدمج العقل الدينيّ بين السّلطة والمعتقد. هو لا يرى إمكانيّة الاعتقاد بلاهوت صرف يربط الإنسان بالله باستقلاليّة عن المؤسّسة الدينيّة وبدون الخضوع لها، ولما ترسمه من أحكام وطقوس وشعائر دينيّة. الخضوع للمؤسّسة الدينيّة ولأحكام رجالها، الّذين يُمثّلون الله، هو قبل الله وفوق الجوهر اللاهوتي والحقّ المُجرّد الّذي لا يقدر الإنسان أن يعرفه بشكلٍ مستقلّ. المؤسّسة الدينيّة لا تعرف حدودًا بسعيها للحفاظ على سطوتها على الفرد والمجتمع والدولة والحياة.
وتبثّ هذه السلطة روح العجرفة والتعالي لدى الجماعة الدينيّة وأتباعها لتُبقيها موحدة تحت يدها فلا تُتعبها. وهكذا تصير الطائفيّة أعلى من الحقّ والقِيَم والدّين الصّرف. ولا يعود أحدٌ قادرًا على رؤية شيء صالح عند الغير. ويصير المتديّن شقيقًا لإبن دينه ينتصر له حتّى ولو أخطأ ولو ظلم الآخر المختلف عنه وإن كان على حقّ. وهكذا تصير المعادلة التالية: "الحقّ دومًا مع الطائفة".
ومن المشاكل الأساسيّة للعقل الدينيّ أنّه لا يفهم تطوّر المعتقد الدينيّ عبر التاريخ. فتراه يقول: "هذا ما أراده الله من بدء البشريّة!" وهكذا نرى العقل الدينيّ يخاف من الأديان الّتي سبقته والّتي خرجت منه أو قامت بعيدًا عنه أو أتت بعده. وعند تعارض فكرة جماعته الدينيّة مع الحقائق الفكريّة أو العلميّة أو الحقوقيّة أو الأخلاقيّة أو القِيَميّة أو الحضاريّة أو الثقافيّة تُرفض الأخيرة ولا تُناقش. العقل الدّينيّ يخاف على منظومته من السّقوط أمام رياح التّشكيك والعلم والنّقد والمقارنة. في غالب الأحيان هو عقل يتعطّل ويفقد العقلانيّة والحكمة والإعتدال والرّحابة عند الإختلاف.
الأخطر في الموضوع، هو أنّ العقل الدينيّ الممتهن للوعظ الأخلاقيّ ولقيَم المساواة والعدالة والحريّة ولتمجيد أخلاقيّات طائفته وماضيها، والّذي يُرحّب دومًا بالمهتدين بصفوفه، نراه يتحوّل، وبطرفة عين، إلى تقطيب الحاجبين والغضب والتهديد والوعيد والأبلسة والتّكفير والعنف والإضطّهاد والقتل المعنوي والدّموي والثأر والحقد بحقّ من يختلف معه أو يتجرّأ أن يتركه. الأبواب عنده ليست مفتوحة بالاتّجاهين!
والأبشع في الموضوع، هو أنّ هذا العقل الدينيّ غير مُستعدّ أن يُعيد النّظر في تفسير نصوصه الدينيّة العنفيّة الّتي تُنادي بقهر الآخرين وإنزال الأحكام بهم نيابةً عن الله أو باسمه! أليس هذا ما فعله قايين بأخيه هابيل وتكرّر في جميع الحروب الّتي اقترفت باسم الدّين؟ هل من علاج لهذه المحنة الكبيرة في المجتمع البشريّ؟ الأمر يحتاج لشغل ٍكبيرٍ على طرق التّفكير ومبادئ التّفسير والمقاربة مع العصر وليس فقط على تحديث لغة الخطاب الدينيّ وإلّا وقعنا بالخداع والمراءاة وازداد الأمر سوءًا.