لم يعد من المستساغ الترداد ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب يجري تغييرات في مناصب ادارته والمراكز الرسمية الاساسية بالطريقة نفسها التي يغيّر فيها ثيابه، فلا يلبث ان يتم تعيين شخص في منصب وزير او مستشار حتى يجد نفسه خارج اطار العمل الرسمي بعد فترة قليلة. هذا ما تعيشه الادارة الاميركية بالفعل منذ وصول ترامب الى السلطة، وهو ما اختبرته اخيراً وزارة الدفاع بعد تعيين مارك اسبر على رأس هذه الوزارة.
الخبر يكتسب مفهوماً اعمق واكثر دلالة حين يتحول الاهتمام قليلاً الى التصريحات التي اطلقها ترامب عشية بدئه باطلاق حملته الانتخابية الرسمية لولاية رئاسية جديدة، وفي ظل تصاعد الحديث عن مواجهة محتملة في الخليج مع ايران. من المهم الاشارة الى ان اسبر يأتي من خلفية عسكريّة كونه خدم في القوات المسلحة خارج الولايات المتحدة، كما كان له وجود طويل نسبياً في المناصب الادارية في البنتاغون.
واذا ما انطلقنا مما يجمع عليه الكثيرون لناحية ابتعاد ترامب عن مواجهة عسكرية جدية مع ايران، فإن ما يبقى من الموضوع هو الاعتماد على اسبر لقيادة ضربة عسكريّة محددة ومحصورة تكون كافية لتحريك الركود السائد حالياً على الجبهة السياسيّة والدبلوماسيّة، واظهاره (ايّ ترامب) للناخبين الاميركيين قدرته على القيام بكل ما يلزم، دون الدخول في حرب، لاثبات العزم الاميركي واستعادة الصورة القوية والهيبة العسكرية للولايات المتحدة.
هناك نتيجة اخرى يتوخاها ترامب من القيام بعمل عسكري محدود في الخليج، وهو ارسال رسالة معنوية مهمة للعسكريين الاميركيين مفادها ان التفوق العسكري الذي يتخوّفون منه من الصين وروسيا، لن يخيّم فوق رؤوسهم لفترة اطول من ذلك، لان العمل بدأ على زيادة التسلّح والقدرات العسكرية الاميركية للتعويض عن الفترات السابقة التي بقي فيها تفوق هذين البلدين ظاهراً بشكل واضح، وليس هناك افضل من اسبر لمتابعة هذا الملف لانه ليس بجديد عليه، بل واكبه وتعرّف الى ادق تفاصيله وكان يحث المسؤولين الاميركيين منذ زمن على عدم التلكؤ في مواكبة التطور الصيني والروسي، دون ان يجد آذاناَ صاغية. واللافت ان اسبر يتمتع بثقة لدى الديمقراطيين توازي تلك التي يحظى بها لدى الجمهوريين، ما يجعله الاكثر ترجيحاً لتولي المنصب، وليكون نقطة التقاء نادرة بين الحزبين في خضم المعركة السياسية والادارية بينهما.
واليوم، تبدو الفرصة مناسبة اكثر من أيّ وقت مضى، ولا شك ان ترامب سيعتبر هذا المسار وتعيين اسبر لقيادته، بمثابة الخرطوشة الاخيرة التي يملكها قبل الانتخابات، ولحثّ ايران على الانخراط في مفاوضات للوصول الى اتفاق جديد يعزز قوته على صعيد الداخل الاميركي الذي سيرى فيه الرئيس الذي لم يخف من المواجهة وحصل على مبتغاه "بالقوة"، كما على الصعيد الخارجي حيث سينظر اليه الاوروبيون والعالم على انه الرئيس الذي اقرن اقواله بالافعال وسار عكس التيار الى ان حقق ما أراد.
ولكن، كف سيكون موقف ترامب في حال لم تنجح خطته، وجرت الرياح بعكس ما يشتهيه؟ من المؤكّد عندها انه سيستمر بحصد التعاطي السلبي معه من الخارج، فيما لن تتراجع شعبيته في الداخل الاميركي كثيراً بفعل التحسينات التي اجراها على الاقتصاد الاميركي وتخفيض نسبة البطالة وغيرها من الامور التي يتبجّح بها والتي تشكّل الركن الاساسي للحياة اليوميّة للاميركيين، وعندها ستبقى حظوظه قائمة وبشكل جدي لتولي ولاية رئاسيّة ثانية رغم كل ما يقال عنه داخل الحدود الاميركيّة وخارجها.