لم يعد من يملك التفوق العسكري والتكنولوجي، بالضرورة، صاحب الكلمة الفصل. التحولات التي يشهدها العالم، في مفهوم القوة وعناصرها، سمحت بفرض معادلات من نوع آخر. فبات الأقوياء مضطرين إلى إجراء حسابات دقيقة للكلفة قبل المبادرة إلى خيارات عملانية، وخصوصاً عندما يكون في الطرف المقابل من هو مستعد للتضحية.
مرة جديدة، الرغبة لا تكفي. القدرة والكلفة، وحدهما، اللتان تحدّدان مسار الحروب في عالم اليوم. هذه هي قاعدة الحسابات لدى الأقوياء قبل الضعفاء. وهذا، بالضبط، ما تفعله واشنطن اليوم مع طهران.
المستويات المدنية والسياسية والاقتصادية والإعلامية من الحرب الأميركية على إيران قائمة من دون توقف. لكن تعقيدات المسألة جعلت المستوى العسكري يحضر بقوة على الطاولة. وهو، هذه المرة، لم يحضر بفرض أميركي، بل استدعته إيران نفسها التي تعرف أن ليس لمصارفها القدرة على تجميد حسابات الرئيس الأميركي وصحبه، وأن لا قدرة لدى اقتصادها على فرض آليات عمل على الشركات العالمية. لكنها تريد إشعار الأميركيين والأوروبيين، وبقية العالم، بأن لديها أوراق قوة قادرة على تحويلها الى أدوات انتقام مما تقوم به أميركا.
إيران ليست في وضع تقبل فيه التفاوض تحت النار ولا بأي ثمن. وهي التي خبرت الحصار والعقوبات، ترى نفسها قادرة على المواجهة. لا تريد البقاء في موقع المتلقي للضربات فقط لأنها ترفض مماشاة الجنون الأميركي. بل تريد القول، للأميركيين والأوروبيين العاجزين عن كبح جنون واشنطن وبقية العالم، إنها صمدت واستعدّت وبذلت تضحيات كبيرة حتى باتت قادرة على مواجهة القهر الأميركي.
التخبط في خطاب البيت الأبيض لا يعني أن الأمور متجهة إلى الهدوء
إيران التي تملك حلفاء وأصدقاء وأنصاراً، وحتى أتباعاً، لديها القدرة على اللعب في أكثر من ساحة. لكنها، اليوم، لا تظهر بمظهر الهارب من المواجهة. بل تعمد الى الرد التصاعدي على حدودها وفي مياهها وداخل أجوائها. صحيح أن ذلك يتزامن مع ضربات توجه في بعض الساحات للمصالح الأميركية. لكن الأساس، هو أن طهران تريد إفهام أميركا والعالم بأنها مستعدة لمواجهة مباشرة وشاملة، من دون حاجة الى أحد. وهي لا تريد توجيه الضربات في الظلام، بل في إمكانها فعل الأمر صراحة متى تطلب الأمر. وهذا ما حصل أمس.
إسقاط القوات الإيرانية طائرة تجسس أميركية، جاء ليؤكد استعداد إيران للدفاع عن نفسها مهما كان الثمن. فهي لم تعمد الى إسقاط الطائرة، وتوجيه رسالة مكتومة المصدر، بل بادرت إلى إعلان المسؤولية، وسط ذهول ونفي أميركيين. وهو إعلان يضاهي، بقوته، عملية الإسقاط نفسها. فعلت طهران ذلك كي لا تترك لواشنطن فرصة التنصل من إسقاط الطائرة، ولا حتى فرصة الهروب نحو الادعاء بأنها سقطت في ظروف مجهولة. أرادت إعلام الأميركي بأنها قادرة، عسكرياً وتقنياً واستخبارياً، على إسقاط طائراته. وأرادت، عبر إعلانها مسؤوليتها، إعلامه أيضاً باستعدادها لتحمل نتائج هذه الخطوة، وانتظار الرد حتى ولو كان حرباً. حتى يبدو، في لحظة ما، كأنها تستدرجه الى الحرب، أو تضيق خياراته بغية دفعه الى ارتكاب الخطأ الكبير بإشعال المنطقة. بهذا المعنى، تقول إيران للأميركيين: توقفوا عن الألاعيب والمناورات، وتعالوا مباشرة الى المواجهة الشاملة. وهي رسالة من شأنها تضييق هامش المناورة الأميركية، ودفع واشنطن الى خيارات حاسمة: إما الذهاب نحو تسوية تعود فيها عن كل قراراتها، وإما الى المواجهة الشاملة وانتظار الحصاد.
الخطوة الإيرانية أدخلت الأميركي في مرحلة حرجة. ما من أحد يشكّك بقدرة واشنطن على شن حرب قاسية ومجنونة. وما من أحد ينكر أن في مركز القرار الأميركي من لديه الحافزية الكافية لخطوة بهذا الحجم. لكن السؤال الأول الذي يطرح على طاولة القرار الأميركي يعود بالجميع الى القاعدة ــــ المفتاح: ما هي القدرة وما هي الكلفة؟ وهنا أصل الحكاية!
حصاد الأسابيع الماضية يشير بوضوح الى أن لدى طهران إرادة سياسية للمواجهة الشاملة، من دون الركون الى أي وسيط أو طرف ثالث. وهي حددت هدفها بانتزاع حقوقها من دون أي تنازلات، في ظروف تتيح لها استعراض عناصر القوة السياسية والاقتصادية والذاتية، واستعراض القوة العسكرية القادرة على الدخول في مواجهة شاملة. ناهيك عن امتلاكها نفوذاً كبيراً وقوياً جداً في المنطقة، يسمح لها بإرباك كل حلفاء أميركا من حكومات وجهات ومجموعات. وهو نفوذ قابل للترجمة خطوات عملية متى تطلب الأمر.
إيران ليست في وضع تقبل فيه التفاوض تحت النار ولا بأي ثمن
في المقابل، تبدو أميركا المتفوقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في حالة إرباك. فهي غير قادرة على الركون الى أي من حلفائها في المنطقة. بل باتت مضطرة إلى الدفاع عن جنودها المنتشرين هنا، وعن أنظمة أقرب المقربين إليها، من إسرائيل الى آل سعود. كما أنها مضطرة ــــ في حال قررت المواجهة ــــ إلى القيام بخطوات عملانية، وإعداد موازنات تتجاوز أضعاف ما أنفقته في حروبها المفتوحة منذ عام 2001. لذلك، فإن من يجلس الى طاولة الرئيس الأميركي ليس مدعواً الى إلقاء خطب حماسية، بل الى تقديم عرض عملاني لحجم القدرة المفترض استخدامها في الحرب، ولحجم الكلفة المتوقعة، وهما أمران غير سهلين في ظل انعدام معرفة مدى قدرة الطرف الآخر على الحركة.
ما حصل أمس، والتخبط الواضح في خطاب البيت الأبيض وسيده، لا يعني أن الأمور متجهة الى الهدوء. على العكس من ذلك، نحن وسط مناخات توتر تفتح المجال أمام أخطاء تقود الى حروب كبيرة. لكن المؤكد، الآن، أن في أميركا صاحب قرار يذرع مكتبه جيئة وذهاباً وهو يستمع الى الخيارات المفتوحة، بين رد موضعي وحرب قاسية وشاملة، لكنه شارد في محاولة الإجابة عن سؤال: هل أفعلها؟ وكيف؟
على الهامش: عندما يستمع الصحافي منا الى كلام الرئيس الأميركي، أمس، ستصعب عليه متابعة التصريحات والحملات القائمة في إسرائيل والسعودية. وفي لحظة ما، يمكننا أن نفهم أن ما يجري بين أميركا وإيران اليوم، يفتح الباب جدياً على سؤال ليس قائماً الآن، لكنه بات متاحاً، يتعلق بمصير نظامي إسرائيل وآل سعود معاً!