تشكل الكتابة عن شخصية عظيمة تركت اثرا واضحا وبصمة مضيئة في صفحات الخلود ووجدان التاريخ، تشكل الكتابة حالة تهيب مما سيخط القلم وتحبرالكلمات والاحرف. والخشية كل الخشية من عدم الاستطاعة في ايفاء حق او تبيان حقيقة على الرغم من البحث والتمحيص، وايضا الذهاب بعيدا في الانشائيات والوصف الذي بدوره قد لا يلبي الغاية.
بداية لا بد من الاضاءة على عناوين مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة، لعب فيها رجال عظام دورا اساسا في قولبة السكون والخنوع والخضوع واعادة تشكيله الى ينابيع ثورة متفجرة في وجه الطغيان والظلم. واعادت تكوين المجتمع على مفاهيم المقاومة بكل اشكالها ومعانيها لبناء ثقافة مؤسسة على الفهم الحقيقي لمعنى الحرية الانسانية من اي قيد غير العبادة والعمل في سبيل الله والانسان والوطن.
الشهيد الدكتور مصطفى شمران واحد من اؤلئك الذين ضاقت بهم الساحات والساحات بحثا عن خدمة يقدمها الى الفقراء او يد مساعدة يمدها الى المحرومين او وقفة تحت راية الحق للدفاع عن مظلوم، هو من الذين كان دأبهم وعملهم نحو الله اولا واخرا.
والحديث عن الشهيد شمران ليس ترفا فكريا ولا يمكن ان يكون كذلك لانه حديث عن شخصية عظيمة جاءت من اقصى المدينة، واتبعت درب الجلجلة والجهاد وسلكت درب الحق الموحشة لقلة السالكين. في قلب الشهيد شمران صرخات المحرومين. في نظراته دموع اليتامى، في تواضعه قدوة ومثل العالم المتمكن العارف الزاهد، وفي فكره وقلبه امام سيد من تلك الشجرة الطيبة المباركة هو الامام القائد السيد موسى الصدر، في وجدانه وجهاده عنوان اساس هو ان يكون عنوانا وعونا للمحرومين والمعذبين من خلال حركة افضل للانسان هي حركة امل.
ولد الشهيد شمران عام 1932 في مدينة قم ثم ما لبثت عائلته ان انتقلت الى طهران للعيش فيها بعد عام من مولده.
وكان الشهيد القائد طفلا محبا للعزلة غارقا في التأمل والتفكر، متجنبا للصخب والضجيج ومستغرقا في مشاهدة جمال وجلال الطبيعة والوجود الالهي.
كما كان عاشقا للسماء وعاشقا للنجوم المتلألئة. وبعد ان انهى دراسته الابتدائية في مدرسة انتصارية بالقرب من بامنار انتقل الى ثانوية دار الفنون ثم قضى العامين الاخيرين في ثانوية البرز دون مصاريف دراسية.
وكان تلميذا ممتازا على طوال هذه المرحلة. كما كان يتميز بالرقة والاحساس المفرط. ويتألم من صميم قلبه لالام المحرومين ويشاركهم همومهم بعواطفه المستفيضة.
ولقد كتب هو في مذكراته مصورا تلك الفترة من حياته:
عندما كنت عائداً تحت جنح الليل المظلم شاهدت شخصاً فقيراً يرتجف من البرد القارس وسط ثلوج الشتاء، غير أنه لم يكن بإمكاني أن أعد له مكاناً دافئاً. فقررت أن أقضي تلك الليلة مثله أرتعش من البرد بعيداً عن المأوى، وقد فعلت؛ فقطعت الليل حتى الصباح وأنا أرتجف من شدة البرودة لدرجة أنني أصبت بالمرض الشديد...
وما أجمله من مرض... "
وانهى دراسته الجامعية في فرع الالكتروميكانيك بكلية الهندسة، وبعد سنة اصبح مهندسا في الكلية. سافر الى اميركا عام 1958 لمواصلة دراسته، فنال شهادة الدكتوراه في الالكترونيك وفيزياء البلازما.
وقف الشهيد شمران في الصف المعارض لنظام الشاه منذ الخامسة عشرة من عمره مستفيدا من وجود مفكرين كبار امثال الشهيد مطهري والمرحوم اية الله طالقاني. فكان يستلهم فكرهم. ويقوّم به افكاره لينهض بدور فاعل في النشاطات الطلابية، وبادر الى تشكيل الاتحاد الاسلامي للطلبة في جامعة طهران، كذلك واصل نشاطاته الجهادية في اميركا واقدم هو ومجموعة من رفاقه على تأسيس اول جمعية طلابية اسلامية في اميركا فقطع عنه نظام الشاه منحته الدراسية.
مع انطلاق ثورة 4 حزيران 1963 بدأ الشهيد شمران فصلا جديدا في نضاله. اذ توجه الى مصر ليقضي سنتين في دورة مكثفة لتعليم فنون حرب العصابات والحروب غير النظامية وحصل فيها على المرتبة الاولى بين المتدربين واخذ على عاتقه مسؤولية تعليم المجاهدين الايرانيين فور انتهاء الدورة.
ومع انتصارالثورة الاسلامية في ايران عاد الى وطنه بعد 23 سنة من الابتعاد عنه. ووضع كل تجاربه وخبراته وقدراته تحت تصرف الثورة. وتولى فيها مناصب عديدة. حاز على ثقة الامام الخميني فكان ثقته ويده التي تقبض على زناد الثورة الفتية. حتى ان الامام الخميني لقبه ب: "حمزة العصر". ولدى تشكيل مجلس الدفاع الاعلى في الجمهورية الاسلامية في ايران بعد انتصار الثورة عينه الامام الخميني ممثلا ومستشارا له في هذا المجلس.
وهذا هو نص قرار التعيين:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة الأستاذ الدكتور مصطفى شمران أيّده الله تعالى؛ تشكيلاً لمجلس الدفاع القومي الأعلى استناداً إلى على المادة العاشرة بعد المائة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد تقرر تعيين سيادتكم مشاوراً لي في هذا المجلس. ونظراً لما نمرّ به من ظروف استثنائية فإن على سيادتكم القيام بالمتابعة التامة والدقيقة لكافة الأحداث الداخلية المتعلقة بدوائر الجيش المختلفة وإرسالها إليَّ كل أسبوع.
وتولى وزارة الدفاع لبعض الوقت في حكومة الجمهورية الاسلامية وفي الدورة الاولى لمجلس الشورى الاسلامي انتخبه سكان طهران ممثلا لهم في المجلس. وبدأ شمران فصلا جديدا من حياته معتمدا التضحية والايثار فأسس قوات الحروب غير النظامية وخاض بها معارك طاحنة في مواجهة الاعتداء الصدامي الغاشم.
وخلال الحرب مع العراق اصيب بشظايا قذيفة في قرية دهلاوية بمحافظة خوزستان. نقل على اثرها الى مستشفى اهواز لكنه ما لبث ما فارق الحياة.
المتتبع لحياة الشهيد شمران يلحظ صفات اتسم بها ولازمته كقائد يحس مع العناصر والمجاهدين بكل الظروف وتعبهم والامهم. ويشاركهم الافراح والاتراح. بحيث يشعر الجميع انهم في مركب واحد، وان القائد لا يعيش في برجه العاجي انما هو معهم في فقرهم وآلامهم وافراحهم.
التحق الشهيد شمران بالكلية الفنية في جامعة طهران، وبدأ دراسته في قسم الهندسة الكهربائية، ولمّا كانت تلك الفترة متزامنة مع مرحلة الانقلاب فإنه اضطلع بالنشاط الواسع في النضال السياسي الشعبي والتظاهرات الخطيرة المناوئة للنظام الشاهي.
فحيثما كان الألم والعناء والعمل والمسؤولية والمشاكل والمخاطر، كان الشهيد القائد حاضراً؛ فكان يركب الخطر وسط التظاهرات العارمة وأمام الإطلاقات النارية وفي مواجهة الدبابات وفي خضم المسؤوليات الكبرى، وكان دائماً ما يعرض نفسه للخطر من أجل إنقاذ حياة زملائه. لم يكن يشارك في مراسم الأفراح والمسرات، وكانت سعادته الكبرى في إسعاد الآخرين وتحمل آلامهم، لدرجة أنه كان يشعر بالضيق والقلق عندما تسترعيه الضرورة لحضور أحد الأفراح، لأنه كان دائم التفكير في شقاء البائسين والمحرومين من مثل هذه المتع والمباهج.
ومع انخراطه الكامل في كل هذه المشاكل ومشاركته الفعالة في ميادين الصراع السياسي والاجتماعي ألاّ أنه تخرج من الجامعة بدرجة ممتاز، وكان الأول على دفعته حتى إن أساتذة وطلاب تلك الكلية ظلوا يتناقلون اسمه على ألسنتهم عدة سنوات.
والكفاح من اجل الحق والدفاع عنه في مواجهة الطواغيت في قاموس الشهيد شمران لم يحده زمان او مكان، بل فرضته الحاجة الى امثاله، فتخلى طوعا وبإرادة واعية صادقة همها التقرب الى الخالق بخدمة عباده عن شهوة الشهرة وبريق الاضواء، وعن الخيارات الواسعة المفعمة بالترغيب والاغراءات، ليكون قريبا من اشجار الزيتون وصخور الوغى وميادين الجهاد بالدم والفكر والقلم والسيف والبندقية وبالصبر والاناة.
له صور تكاد تقارب القداسة، وهو الشبل الكشفي المعلم، المربي، المخترع، الشاعر، الناسك، الفيلسوف، رجل الدين، الثائر، القائد، هو كل هذه الأمور مجتمعة لهذا حاز على ثقة الإمام القائد السيد موسى الصدر (أعاده المولى) فكان ظله.
قبل هذا كانت الإنتفاضات في ايران على الظالم والإعتقال قد شكلت انعطافة نوعية في مسيرة الشهيد شمران الجهادية. فأوان البندقية قد أزف. وكان لبنان هو المحطة التي تهفو اليها قلوب الثوار من كل مكان. وكانت تمنح المعنى في خط النضال والجهاد في الصراع بوحه المشروع الأميركي والصهيوني. وهنا في لبنان، كان المشروع الإستنهاضي للمحرومين وقاعدته العريضة يشق طريقه بقيادة الإمام القائد السيد موسى الصدر.
وكانت عين الإمام الصدر كما الشهيد شمران على القدس وفلسطين. ووجد كل منهما نفسه في الآخر. وارتبط اسم الشهيد شمران في فكر ووجدان وتاريخ الحركيين من أبناء حركة أمل الذين يحفظون له جهاده ونضاله معهم على تلال شلعبون وصف الهوا والطيبة وكثير من ساحات البطولة والعز التي غيرت بوصلة لبنان نحو العصر المقاوم الذي أراد له الإمام الصدر ان يكون مشتعلا دائما وليس موسميا أو آنيا، بل مبنيا على اساس تكوين مجتمع المقاومة الذي يتحضر في كل الأوقات ليكون مستعدا دائما لمواجهة الأخطار والتحديات، خصوصا في وطن مثل لبنان هو على خط التماس الجغرافي مع فلسطين المحتلة التي يربض على تحررها العدو الصهيوني الذي يخاف من لبنان قدرة على المواجهة والصمود والإنتصار أسست لها تلك الأيام التي عمل فيها الشهيد شمران بتوجيهات الإمام الصدر على زراعة ثقافة المقاومة بالأسنان والأظافر والسلاح مهما كان وضيعا، فأثمر نصرا وتحريرا وعزة وكرامة .
وجد الشهيد شمران في جغرافية لبنان أقرب نقطة متاحة من فلسطين المحتلة، وحيث أيضا لا مسافة تفصله عن المستضعفين والمحرومين. فكانت مدينة صور مقرا أولا له، حيث أخذ على عاتقه ادارة المدرسة المهنية في مؤسسة جبل عامل – البرج الشمالي، التي خرجت مقاومين أبطالا كانوا من الطليعة المؤمنة التي باعت جماجمها لله، وواجهت العدو الإسرائيلي مؤمنة بحقها وملتزمة بخط ونهج الإمام الصدر، وهناك اتيح له بناء الكوادر وتأهيلهم علميا وثقافيا، وعمل الى جانب القائد المغيب السيد موسى الصدر على تشكيل حركة حملت اسم ذلك المعنى الذي ملك عليه تفكيره واستقر في حلمه: حركة المحرومين، التي انبثقت عنها حركة أمل – أفواج المقاومة اللبنانية – وكان الهاجس دائما عند الشهيد شمران تحقيق الهدف المقدس وهو تحرير فلسطين.