احتل يوم 20 حزيران/ يونيو 2019 موقعاً مميّزاً في مسار المواجهة بين أميركا وإيران، بعد ان شهد عملاً غير مسبوق بطبيعته وظروفه والنتائج التي ترتب عليه، ففيه أسقطت منظومة الدفاع الجوي الإيراني العاملة تحت اسم «خرداد 3» أهمّ طائرة تجسّس أميركية تشكل في تقنيتها قلعة طائرة تنفذ منها أعمال المراقبة والرصد والتوجيه والتشويش والحرب الالكترونية، وتعتبر فخر الصناعة العسكرية الأميركية في مجالها. وتكمن أهمية الحدث في متعلقاته المتعدّدة من مادية وميدانية وعسكرية واستراتيجية مع ما يتصل بها في هذا المجال.
ودون ان نسهب في تفصيل ما ذكر نستعرض أهمّ معاني العملية الدفاعية الإيرانية ودلالاتها التي باتت محط درس وتحليل من قبل أعداء إيران وأصدقائها ونتوقف بخاصة عند ما سجل على الصعيد الإيراني فنذكر:
أولاً: اليقظة الإيرانية العملانية والميدانية، يقظة يؤكدها نجاح إيران في تتبّع الطائرة من لحظة إقلاعها من قاعدتها في الخليج الساعة 00.14 وحتى إسقاطها الساعة 0405 في المجال الجوي الإيراني وهنا سجّل لإيران الدقة والاحتراف العسكري الذي مكّنها من التحديد الدقيق لمكان الطائرة ومكّنها من توجيه الإنذار لأكثر من مرة عندما خرقت الأجواء الإيرانية فوق البحر، ثم مكنها من إسقاط الطائرة عندما لم تستجب للإنذار ولم تخرج من الأجواء.
ثانياً: الجهوزية الإيرانية القتالية العالية: حيث أكدت إيران أنها جاهزة في الميدان لأيّ تطوّر وأنها قادرة على التعامل مع أيّ مصدر من مصادر الخطر مهما كانت تقنيته وتعقيدات مواجهته وهنا سيكون توقف كبير عند قدرة إيران على التعامل مع هذا الهدف الجوي المعقد بعد ان كان استعمل كلّ تقنيات التخفي والتمويه والتشويش فالطائرة أقفلت كلّ أجهزة التعرّف عليها وأحاطت نفسها بهالة حاجبة تمنع الرادار العادي من التقاطها ورغم ذلك لم تستطع ان تتخفى عن العين الإيرانية ولم تستطع التفلت من القبضة الإيرانية.
ثالثاً: جهوزية منظومة صنع القرار الإيراني وشجاعتها وتنظيمها. وهنا سيكون نقاش كبير في كلّ الأوساط داخل إيران وخارجها حول ذلك، فكثيراً ما يسجل في الدول تأخير في صدور القرار الدفاعي التنفيذي الميداني، ما يؤدّي الى تعطيل فرص تنفيذه، وعادة يراهن المعتدي على تعقيدات استصدار القرار هذا او التردّد او الخوف من صدوره ويوجه ضربته مطمئناً الى التفلت من الردّ. أما في حالة طائرة «غلوبال هوك» الأميركية وعملية إسقاطها فقد تبيّن انّ عملية صنع القرار الدفاعي الإيراني بسيطة سهلة واضحة أعطت القائد الميداني المحلي الطلاقة في اتخاذ القرار العملاني بسرعة ترجمة للقرار الاستراتيجي المركزي الذي مفاده «وجوب إقفال الأجواء الإيرانية بإحكام في وجه أيّ اعتداء»، وهو قرار لا يتخذه إلا قويّ قادر واثق بنفسه وبمنظومته العسكرية في مختلف مستوياتها القيادية والتنفيذية، وهذا الأمر يشكل بحدّ ذاته عامل ردع دفاعي قوي إضافي يرفع من مستوى فعالية الدفاع.
رابعاً: الجهوزية الإيرانية للتعامل مع نتائج القرار الدفاعي مهما كانت وفي شتى المستويات. حيث لا يقدم على مواجهة أميركا إلا من أنس قوة في ذاته ووطن نفسه على التعامل مع النتائج مهما كانت طبيعتها وقسوتها. فإسقاط طائرة أميركية قد يشكل ذريعة كافية لتشنّ أميركا حرباً على إيران تنفذها بوحشية تدميرية يتناسب حجم التدمير فيها مع قدرات أميركا العسكرية العالية وطبيعة سلوكها المتفلت من أيّ قيد. ولا ننسى انّ أميركا هي الدولة الأقوى في العالم عسكرياً، وانّ أميركا تتصرف خارج القانون الدولي العام وترى نفسها فوق القانون لا بل انها ترى انّ القانون هو ما تقرّره هي لتلزم به الآخرين دون ان تلزم نفسها به. ورغم كلّ ذلك أقدمت إيران على إسقاط الطائرة الأميركية وأظهرت الجهوزية التامة للتعامل مع النتائج والتداعيات والتي في طليعتها احتمال الحرب، وهنا سجلت صلابة وقوة الموقف الإيراني الذي لم يتأثر بالعملية اذ كما قال الامام الخامنئي قبل إسقاط الطائرة «مثلي لا يراسل مثله» رافضاً تلقي او إرسال رسائل الى ترامب، رفضت إيران بعد العملية التفاوض تحت الضغط ما جعل أميركا تتراجع عن عروض التفاوض والوساطات ثم تنكرها لتحفظ ماء الوجه.
هذه الأمور ستكون محلاً لتحليل من يتابع الشأن الإيراني وبشكل خاص معسكر أعداء محور المقاومة، وبشكل أخصّ الصقور فيه مجوعة الباء على حدّ تسمية الوزير ظريف ، أيّ الفريق الذي لا يرى الا الحرب حلاً في التعامل مع إيران، حيث سيتوقف هذا الفريق عند حقيقة قاطعة بأنّ إيران اتخذت قرار الدفاع عن نفسها بشكل صارم وحازم يدور بين المركزية الاستراتيجية واللا مركزية العملانية، وامتلكت إيران من القدرات ما يمكّنها من وضع هذا القرار موضع التنفيذ الموثوق نجاحه، ثم انّ إيران أظهرت من اليقظة والجهوزية ما يجعل قرارها قراراً رادعاً بعيداً عن الديماغوجية…
لقد أكدت إيران قوتها الفعلية، ومارست هذه القوة في موقعها المناسب، ما فرض على أميركا سلوكاً لم يكن ينتظره او يتصوّره الكثير من المعنيين بالأداء الأميركي، سلوك تميّز بالتردّد والإرباك والتقلّب في المواقف فتراوح بين الحديث عن الذهاب للحرب الى نقيض ذلك والإقرار بالخطأ ضمناً وصولاً الى ما نسب الى ترامب أخيراً من «انّ الحرب ليست في مصلحة أميركا». إرباك جعل المتكلين على أميركا لتحميهم يرتعبون من المستقبل. وهنا نذكر بأنّ أميركا تستند في عملها العسكري عادة على عنصرين: العنصر النفسي والعنصر المادي، وتستند في الأول الى هيبتها وسطوتها التي تحمل الآخر على الامتناع عن الهجوم عليها او مواجهتها دفاعياً إذا هجمت، لأنها زرعت في قلبه الرعب ما قاده الى الانهيار الإدراكي الذي يمنعه عن القتال، أما العنصر الثاني فتستند فيه الى قوتها العسكرية وفعالية أسلحتها المتطوّرة والمتقدّمة على أسلحة الغير ما يجعلها تفتك بعدوها الذي يجازف في مواجهتها وتقودها الى الانهيار الميداني بعد ان تدمّر سلاحه. فأميركا ترعب العالم بهذه القوة لهذا تتصرف على أساس انها فوق القانون وأنها لا تساءل أمام أحد.
لكن إسقاط طائرة التجسّس الأميركية هذه، وفي ظرفه وطريقته نسف كلّ ما بنته أميركا وأرست عليه أسس عملها العسكري، فلا الانهيار الإدراكي كان له محلّ في منع إيران من التصدي للعدوان ولا الانهيار الميداني كان مجدياً في حماية الطائرة من السقوط، وبرأينا هذا هو الأهمّ والأخطر في كلّ ما يتصل بشأن الطائرة وما ترتب على إسقاطها، ولأجل ذلك حدث الإرباك الأميركي بعد ان وجدت أميركا نفسها مع مصالحها مكشوفة أمام قوة دولية فاعلة أعدّت للموقف مستلزماته قادت الى القول:
1 ـ على أميركا ان تفهم انّ ما كانت تسمعه من إيران حول جهوزها للدفاع ليس استعراضاً بل حقيقة، وبالتالي فانّ مواجهة إيران عسكرياً لن يكون نزهة، لا بل ان مخاطر وخسائر مواجهتها عسكرياً ستكون أعلى بكثير من خسائر التعايش مع إيران القوية المستقلة.
2 ـ على حلفاء أميركا ان يفهموا انّ أميركا لا تشكل مصدر حماية موثوق يتكل عليه، وسيكون على العقلاء منهم إنْ وُجدوا ان يعلموا انّ أمن الخليج يحفظه أهل الخليج أنفسهم وفي طليعتهم إيران التي سعت وتسعى الى منظومة أمن إقليمي خليجي يساهم فيه الجميع دون تدخل خارجي.
3 ـ على المراهنين على حرب تدمر إيران، ان يفهموا انّ هذه الحرب لن تقع بسهولة وانْ وقعت فإنّ التدمير لن يكون محصوراً بإيران بل سيكون شاملاً للجميع وسيكون الأكثر ثروة أكثر خسارة وهنا ستحدث دول الخليج نفسها كما «إسرائيل» عن الخسائر التي ستنزل بهم في حرب كانوا يتمنونها.
4 ـ أما الفاعلون من الأطراف الدولية، فسيجدون انّ إسقاط الطائرة أحدث نقطة انعطاف في العلاقات الدولية، وأن هناك قوى صاعدة لا تتهيّب القوة الأميركية وليس من المقبول بعد الآن ان يكون التصرف مع أميركا على أساس انّ قرارها قدر لا يردّ وانّ مشيئتها واجبة الطاعة.
على ضوء ما تقدّم نفهم كلام ترامب بالأمس بان «لا حاجة لأميركا في ان تبقى في الخليج»، من باب استيعابه لما حصل وهو يريد ان يقول بأن لا حاجة لأميركا بأن تدخل في اختبارات مواجهة غير مضمونة النتائج، وعليه نرى انّ الحرب التي كثر الحديث عنها بين أميركا وإيران باتت مستبعدة أكثر من أيّ وقت مضى، وانّ الحوار الإيراني الأميركي الذي يريده ترامب لن يحصل مبدئياً في ولاية ترامب الحالية، وبأنّ صفقات واتفاقات ومشاريع اقتسام المنطقة او الهيمنة عليها لن تمرّ بما فيها صفقة القرن، وقد لا أغالي إذا قلت انّ نتائج إسقاط طائرة التجسّس الأميركية غلوبال هوك بصاروخ إيراني قد تكون بحجم نتائج حرب كاملة تمّت في كلّ مراحلها في ساعات أقلّ من الأربع بعشر دقائق ثم انتهت لتستمرّ بعدها أميركا تبحث عن مخرج لمأزقها بحثاً سيترافق مع مواصلة حربها الاقتصادية المدعومة بحرب نفسية عجزت حتى الآن عن ليّ الذراع الإيراني.