كان هذا هو التصريح الأهمّ الذي أطلقه الرئيس بوتين قبيل انعقاد قمة العشرين حيث قال: "الليبرالية مسألة تجاوزها الزمن"، ولهذه العبارة دلالات ومضامين ومؤشرات لحاضر يتبلور ولعمل مستقبلي أكيد يعمل الرئيس بوتين والرئيس الصيني شي جينبنغ وزملاؤهم في منظمة شنغهاي ومنظمة البريكس على إرساء أسسه المتينة من أجل عالم مستقبلي مختلف عن عالم الاستعمار والامبريالية وحروب النهب لثروات الشعوب. وإذا ما أضفنا إلى هذا الموقف الهام موقف الرئيس الصيني في قمة العشرين أنّ "مذهب الحماية الاقتصادية الذي تتبعه بعض الدول" يحطّم الاقتصاد العالمي" ندرك بالضبط الصعوبات التي تواجه الرئيس ترامب في قمة العشرين ونقطة التحول التي عبّر عنها هذا الاجتماع ليس فقط من خلال ما تمّ الاتفاق عليه بل الأهمّ من خلال نقاط الاختلاف التي وجدوا من الصعب جداً التوصل إلى صياغة مشتركة بشأنها. إن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ أولاً وقبل كلّ شيء أنّه لم يعد من الممكن للنظام الليبرالي العالمي الاستمرار بنهجه المعتمد على معاقبة البلدان وفرض شروط الطاعة عليهم وتغيير أنظمة الحكم بما يتناسب
ونظريات هذا النظام و رغباته وبغض النظر عن مصلحة البلدان المستهدفة ومصلحة شعوبها. وكانت الخارجية الصينية قد أعلنت عن رفض الصين للموقف الأميركي بشأن خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر "ونعتبر واردات النفط ضرورية للغاية لأمن الطاقة الصيني ولشعبنا"، وهذا بحد ذاته أول تحدّ للعقوبات الأمريكية في الوقت ذاته رحبت الصين بنتائج الاجتماع الأوربي مع إيران، حيث أعلن الاتحاد الأوربي عن جاهزيته للعمل بآلية "انستيكس" للتعاملات التجارية والمالية مع إيران، كما حثت الصين الاتحاد الأوربي على فتح هذه الآلية أمام دول أخرى في أقرب وقت ممكن. ما معنى هذا الكلام. معناه هو التمرّد العملي والأكيد على نظام الحمائية الاقتصادية وعلى نظام فرض العقوبات على الدول والذي اتبعته الولايات المتحدة بالتعاون مع أوروبا خلال العقود الماضية تحت مسميات مختلفة من الحفاظ على حقوق الإنسان إلى حماية حكم القانون إلى نشر الديمقراطية الليبرالية حصراً كنسخة وحيدة للحكم في بلدان العالم أجمع دون أي تقييم يذكر لأثر هذه النظريات والعقوبات على الدول والشعوب التي فرضت عليها. وما تقوله اليوم الصين وروسيا للاتحاد الأوربي هو المباركة لاتخاذ خطوات لتنفيذ الاتفاق
النووي مع إيران، وفي ذات الوقت تشجيع إيران على الاستمرار في سياستها الاستيعابية والتي تحرج الآخرين وتمكّنها من كسب مؤيدين ومتفهمين لموقفها على الساحة الدولية.
في هذه الأثناء يقدّم الرئيس بوتين دعوة للرئيس الفرنسي ماكرون لحضور احتفالات الذكرى الـ 75 لعيد النصر، كما دعت روسيا باقي أعضاء الاتفاق النووي الإيراني لأن يقفوا في مواجهة العقوبات الأميركية ضد إيران ومن جهته عبّر الاتحاد الأوربي عن موقفه بأنّ الاتفاق النووي الإيراني مازال عنصراً رئيسياً في منع الانتشار النووي عالمياً. إذا لم يكن كلّ ما ورد آنفاً على لسان زعماء روسيا والصين والاتحاد الأوربي تمرداً على آلية العمل الأميركية، فما هو التمرّد إذاً. إنّ قمة العشرين والتي توافق عقدها في أوساكا اليابانية أتت في أعقاب اجتماعات واتفاقات هامة جداً بين الرئيسين الروسي والصيني وبيّن كلّ منهما مع الرئيس الإيراني في قمة شنغهاي وبعد أن اتخذت الصين وروسيا إجراءات لتطبيق الـ 5G في روسيا، وبعد أن أيقنت الولايات المتحدة أنّه لا يمكن لها مواجهة العالم، وبعد زيارة الرئيس الصيني إلى كوريا الشمالية والوقوف بهدوء ولكن بحزم وثبات ضدّ الليبرالية الغربية والتي كلّفت العالم الحروب والمجاعات والتقسيم وكوارث إنسانية لا تحصى. إنّ هذا الواقع الذي أستعرضه في هذه العجالة هو الواقع الذي
يحاول الإعلام الإسرائيلي والغربي التغطية عليه. فمنذ شهر ونحن نقرأ المقال تلو الآخر عن الاجتماع الذي عقد أخيراً في القدس بين مستشاري الأمن القومي الأميركي جون بولتن والروسي نيكولاي باتروشيف والإسرائيلي مئيربن شبات بهدف وضع خطة لإخراج إيران من سورية وأخذ رئيس وزراء الكيان يتبجح أنّ هذا الاجتماع هو دليل على مكانة الكيان وقوته على الساحة الدولية وروجوا لأكاذيب واستقراءات كي يوهموا العالم وكأنّ نتائج الاجتماع ستكون حسب ما يريدون ويخططون. ولكنّ مواقف روسيا المعروفة سواء في علاقتها مع سورية أو مع إيران لا تسمح بتجاوز خطوطها الحمر ولا تضحي بالأصدقاء ولا تبيع وتشتري على حسابهم لأنّ هذه هي صفات الليبرالية المرفوضة جملة وتفصيلاً من بناة العالم الجديد وقادته. وكما روجوا لهذا اللقاء الذي لم يتمخض عن شيء فقد شغلوا الإعلام بالأحاديث الغامضة عن صفقة القرن والتي في الحقيقة كانت صفقة لمن تبناها وسار في مسارها والمضحك المبكي في الموضوع أنّ جاريد كوشينر يقدّم خطّة ويلقي محاضرة على من يعتبرون أنفسهم قادة لدول أو بلدان غير مدركين أنّ العالم ينزلق من تحت أرجل كوشنير وأمثاله وأنّ العالم أصبح في مكان آخر تماماً. هؤلاء يعتقدون أنّهم قادرون على تغيير التاريخ وحياة البشر وشراء مستقبل أوطان بثمن بخس "دراهم
معدودات" غير مدركين أنّ الحقوق لا تسقط بالتقادم وأنّ المجتمعين معهم لا يملكون حقّ التصرف بالديار الفلسطينية والحقوق العربيّة. فالديار الفلسطينية ملك لهؤلاء الشباب الأبطال الذين مازالوا يقاومون أعتى أنواع الاحتلال والاستيطان المتبقية في العصر الحديث بالحجر والصدور المؤمنة بالله والوطن والديار الفلسطينية تكذب المثل الأمريكي أنّ لكلّ ثمنه وعليك فقط أن تعرف الأثمان وتحددها، ولكن هناك البعض المتبقون في فلسطين والعالم العربيّ الذين لا ثمن لهم ولا يمكن شراؤهم بحفنة من الدولارات لن تخرج من الجيب الإسرائيلي أو الأمريكي بل من الجيب الخليجي مدركين أو غير مدركين أنّ هذا ليس شراء لصفقة لفلسطين بل بيع لها في سوق النخاسة ولكن لا يمكن لهم أن يبيعوا أرضاً ليست ملكهم وأصحاب هذه الأرض هم الوحيدون القادرون على حمل رايتها وحماية هذه الراية إلى أن يتمكنوا من غرسها مرة وإلى الأبد على جبالها وسفوحها وفي وديانها ومدنها وقراها.
اللافت في الموضوع هو هذا التزامن الذي لا يراه المطبعون والمهرولون، هذا التزامن بيّن استكمال دورة التمرّد على الليبرالية الغربيّة من قبل قوى عظمى شكّلت أقطاباً هامة في القرن الواحد والعشرين، وكشفت عن عيوب ونواقص الليبرالية الغربية وإجحافها بحقّ الشعوب ونتائج
قمة العشرين مثال واضح على ذلك، وبين اندفاع دول الخليج لدفع الأموال لاسترضاء قوى الاحتلال والاستيطان والتخلي عن الحقوق العربيّة في الأرض والأوطان! فقط أبناء بلدة العيسوية في القدس المحتلة فهموا المعادلة على حقيقتها وتصدوا للعدوان الوحشي الإسرائيلي بصلابة وشجاعة تبعث على الفخر والاعتزاز. لا يمكن لأيّ كمية من المال في العالم أن تكسب الإنسان الاحترام والتقدير الذي يستحقه هؤلاء الشبان الحاملين الواضعين أرواحهم على أكفهم من أجل أن تبقى فلسطين حرّة أبيّة وكي لا يهنأ الاحتلال والاستيطان بتدنيس هذه الأرض الطيبة الطاهرة.
لاشكّ أنّ موقف الفصائل الفلسطينية بمقاطعة ورشة البحرين هو موقف هام على أن تتبعه خطوات لتوحيد الصف الفلسطيني في وجه الاحتلال الغاشم وليتمثلوا قول الرئيس حافظ الأسد: "كلّ ما يوحدنا هو صحيح وكلّ ما يفرّقنا هو خطأ". ورشة البحرين وكلّ العاملين من أجلها سينساهم التاريخ لأنّهم لا يشكّلون شيئاً حقيقياً في مساره، وسيتذكر العالم التضحيات والقادة الذين يعملون برؤى مستقبلية وبمخططات هادئة وذكية كي يكون عالم الغد أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً. وما نتائج قمة العشرين إلا دليلاً على حركة التاريخ، بين ماضٍ برهن عجزه عن تحقيق كلّ ما وعد به من حقوق إنسان وحكم قانون وتنمية متوازية للشعوب وبين مستقبل يصنعه هؤلاء
الذين خبروا عالم الليبرالية الغربية الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وأيقنوا أنّه لم يحقّق شيئاً مما وعد بتحقيقه، فعكفوا على إرساء أسس عالم جديد يستند إلى الاحترام المتبادل والمساواة بين الدول واحترام خصوصيات ثقافتها وحضارتها ودورها وطموحات شعوبها. في هذا العالم الجديد فرصة للشعوب المقهورة أن تتعاون لإزالة أسباب القهر وليس لشراء رضى قوى الاحتلال عن الذين تحتلهم ومحاولة إقناع العالم أنّ الرخاء والسلام يمكن أن ينسجما مع الاذلال والاستيطان وهضم الحقوق. أفلا تعقلون؟