بات من المؤكد أنّ ما أسمي ربيعاً عربياً لم يكن إلا وهم ربيع للعرب وحقيقة ربيع للصهيونية ومن يستثمر فيها. وبصورة أدق ربيع للمشروع الانكلوسكسوصهيوني الذي تقوده أميركا والذي يهدف إلى إلغاء أو تجويف الكيانات السياسية العربية والشرق أوسطية وتحويل المنطقة إلى مستعمرة ومنجم ومناطق حيوية للمشروع الأجنبي الاستعماري للاغتناء الذاتي ولإخضاع العالم عبر التحكم بمصادر الطاقة والممرات الدولية الأساسية.
في بداية انطلاقته حقق المشروع المذكور والمستند إلى أدوات إقليمية وعربية والمموّل بمال عربي خالص من نفط الخليج، نجاحاً بيننا واستطاع أن يدمر دولاً او يشطبها من لائحة الكيانات السياسية، وتمكن من إنتاج بيئة عربية تتسم بالوهن والصراعات بين مكوناتها السياسية كما انه تمكن من حجب العداء لـ«إسرائيل» وتحويله لدى قسم من النظام السياسي العربي حتى ولدى قسم من الشعوب العربية وتحويله إلى وجهة أخرى واستبدال العدو الحقيقي للعرب والمسلمين بعدو وهمي مختلق هو إيران.
في ظل ما ظهر من تصور نجاح المشروع الانكلوسكسوصهيوني، جاء ترامب إلى رئاسة أميركا حاملاً مشروعاً او عناصر مشروع تصفية القضية الفلسطينية بطريقة قديمة جديدة استوحت من مشروع شمعون بيرز «الشرق الأوسط الجديد» خطوطها العريضة وأضافت اليه بعض الخطوط الثانوية ذات الطبيعة السياسية. وهنا تسجل مفارقة هامة هي أن أميركا التي رسمت مشروعها التصفوي للقضية الفلسطينية وروّج له الإعلام تحت عنوان «صفقة القرن» انطلقت في مشروعها كما ولو أنها نجحت كلياً في المشروع الممهد المسمى «الربيع العربي». وهنا كانت نقطة مقتل الخطة الأميركية الإجرامية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية.
فتصفية القضية تستوجب هزيمة الأطراف المتمسكين بها، واقتيادهم إلى نوع من انهيارين: الانهيار الإدراكي الذي يجعل صاحبه ممتنعاً تلقائياً عن المواجهة لا يجرؤ على مقاومة أو قتال ويتقبّل ما يُملى عليه، او الانهيار الميداني الذي يجعل صاحبه عاجزاً عن القتال ولا تنفع إرادة القتال لديه في ظل تدمير وسائله وحرمانه من تحصيل البديل.
ولأجل الوصول إلى واحد من هذين الانهيارين عمدت أميركا إلى شنّ أوسع حرب نفسية في التاريخ ضد من تعرف أنه سيقف بوجه مشروعها. حملة قيل إنها شاركت فيها أكثر من 400 وكالة او وسيلة مسموعة او مرئية وأكثر من 600 وسيلة مقروءة ورقياً أو الكترونياً، وخصصت لها مليارات الدولارات لشيطنة أعداء أميركا وخصومها ثم استخدمت الجماعات الإرهابية بما زاد حجمه عن 600ألف مسلح عملوا في 5 دول عربية، كان نصيب سورية وحدها منهم 250 ألف إرهابي. وأخيراً استعملت أميركا سياسة الحصار والعزل السياسي والعقوبات الاقتصادية لتحقيق غرضها.
ولكن ورغم كل ما بذل، أخفقت أميركا في الميدان الأخطر على مشروعها، أخفقت في سورية وبالتالي أخفقت في مواجهة محور المقاومة ثم تعثّرت في المناطق الاستراتيجية الكبرى الأخرى، كما حصل معها في اليمن ووجدت أميركا نفسها أمام مشهد من الإخفاقات يخشى منه إذا تجذّر وتصاعد أن يطيح ليس فقط بمشروعها لتصفية قضية فلسطين، بل يمس هيبتها وصورتها في الشرق الأوسط ومنه إلى العالم.
لقد لمست أميركا ومعها «إسرائيل» حجم الأضرار التي لحقت بهما من جراء الفشل في مواجهة سورية ومحور المقاومة الذي أعاد صياغة قواعد الاشتباك معها بشكل جديد ما جعلها تقوم على أركان ثلاثة:
أولها انتزاع قرار الحرب من يد المعتدي أميركا و«إسرائيل» ، وجعله قراراً مركباً خاضعاً لإرادتين إرادة تطلقه وهي أرادة المعتدي أميركا و«إسرائيل» وإرادة توقفه وهي إرادة المقاومة ومحورها. وقد حصل طلاق مع نظرية الحرب الخاطفة الإسرائيلية ونظرية الحرب السريعة المحدودة الأميركية.
أما الثاني فيتمثل في مسرح المعركة وأهدافها ووسائلها، حيث إن المقاومة بما امتلكت من إرادة وعنفوان وبما استندت اليه من وسائل عسكرية انتقلت من واقع الحرب الدفاعية المحصورة في ميدان يختاره المعتدي إلى تحقيق الحرب المفتوحة التي تكون فيها كل مصالح العدو والخصم مدرجة في بنك أهداف المقاومة. وبهذا حصل طلاق مع نظرية «الحرب على ارض الخصم» الإسرائيلية ونظرية «مصالحنا لا يجرؤ أحد على المسّ بها» الأميركية، ليكون هناك مشهد جديد مضمونه: كل مصالح المعتدي في كامل المنطقة في دائرة الخطر.
أما الثالث فتجلى في مناعة محور المقاومة وقدرته على مواجهة الحصار والعزل والعقوبات الاقتصادية، إذ رغم الوحشية واللاأخلاقية في ممارسة أميركا لهذه السياسات، فقد بقي محور المقاومة وبجميع مكوناته يمتلك قنوات دولية وإقليمية فاعلة تجعل من سياسة الحصار الأميركي رغم الألم والضرر الذي تحدثه، عاجزة عن لي ذراع أي مكوناته.
رغم هذه الحقائق وجدت أميركا أنه من المفيد لها ان تهرب إلى الأمام وتتعامل مع الوضع كما لو أنها انتصرت في الحريق العربي، وأوهمت نفسها أن أحداً في بلاد العرب والمسلمين لن يجرؤ على رفض خطتها «صفة القرن» او الوقوف بوجه التطبيع مع «إسرائيل» وتسليمها إدارة الشرق الأوسط تحت القيادة الأميركية. كما أنها انطلقت من فكرة سخيفة تافهة تقول: «إن القضية الفلسطينية يمكن ان تحل بالمال والاقتصاد«.
وذهبت أميركا وخلفها من أرهبتهم وجلبتهم او استدعتهم إلى المنامة في البحرين، في مهمة بسيطة وفق ظنها «جمع المال لتكوين ثمن بيع فلسطين«. فكانت الصدمة الكبرى حيث ان ارض الميدان كذبت وهم المخطط وكانت رزمة جديدة من الحقائق تضافرت لتقول إن صفقة القرن سقطت قبل ان تنطلق او في أبعد تقدير سقطت بعد الساعات الأولى لإطلاقها، سقوط يستدل عليه بالتالي:
رفض فلسطيني جامع مانع لأي فكرة بيع فلسطين بأي مال ولأي كان. والمعلوم ان الإرادة الفلسطينية شرط أساسي لنجاح الصفقة، فلولا تمسك الفلسطينيين بحقوقهم لضاعت فلسطين وفكرة استعادتها من زمن بعيد.
عجز أميركي إسرائيلي عن فرض الصفقة بالقوة في ظل ما بات عليه محور المقاومة من قوة وإرادة المجابهة. ومن عظيم الصدف ان يحصل في الخليج ما حصل بين إيران وأميركا، ونجاح إيران في إسقاط طائرة التجسس الأميركية قبل أسبوع من ورشة المنامة في رسالة واضحة الدلالات.
تردد في بيئة من حضر الورشة وخوف خفي لديه من الإمعان قدما في السير بالصفقة، خاصة إذا كان التنفيذ سيفرض عليه التنازل عن شيء مما لديه كما هو حال الأردن ومصر.
برودة دولية في التعامل مع ورشة البحرين ومخرجاتها، برودة انقلبت إلى اعتراض مهذب حيناً أو تشكيك بالنجاح او عدم اكتراث بما جرى مع تمسك معظم الأطراف الدولية بالقرارات الدولية والتأكيد على الجوهر السياسي للقضية الفلسطينية خلافاً لما يراه كوشنير بأن المسألة مالية اقتصادية، ولهذا كان مهماً أن تؤكد روسيا ان لا حل للمسألة بالمال بل بإعادة الحقوق ولحل الدولتين.
ولأنهم أدركوا ذلك، فقد سارع المعنيون بصفقة القرن إلى التسريب بأنهم يرفضون بعضاً مما جاء فيها حتى يقولوا ان الرفض لم يأت من جانب واحد، وإن الصفقة متوازنة وفيها موجبات على كل الأطراف وإذا رفض طرف ما عليه القيام به سيرفض الآخر أيضاً. وبهذا سرّب رفض «إسرائيل» إقامة معبر بري يربط الضفة بغزة.
لقد دمرت أميركا وهجرت وقتلت لكنها لم تحقق النصر، وتضررت دول المنطقة وشعوبها وخسرت الكثير لكنها لم تنهزم وبقيت إرادة المواجهة والقدرة على الاستمرار فيها قائمة، وبات الأكيد أن صفقة القرن التي هللوا وطبلوا لها دخلت في مرحلة التصفية، لتضيف حلقة إلى سلسلة الإخفاقات الأميركية في المنطقة والإخفاقات التي بدأت في العام 2000 بطرد «إسرائيل» من جنوب لبنان وتتواصل اليوم في سورية واليمن وغزة لتؤكد أن قضية فلسطين قضية سياسية استراتيجية عقائدية بالدرجة الأولى وليست قضية مال ورجال أعمال وصفقات