«حادثة قبرشمون لم تكن فقط محاولة اغتيال للوزير صالح الغريب أو الوزير جبران باسيل، بل هي محاولة اغتيال للعهد برّمته، عبر السعي الى افتعال فتنة كان يُراد لها أن تضرب ركائزه وطموحاته، وأن تأكل الاخضر واليابس». هذا هو الانطباع السائد لدى أوساط قريبة من رئيس الجمهورية ميشال عون، بعد مرور بضعة أيام على عاصفة الجبل.
وجد الرئيس عون نفسه مرة أخرى أمام تحدٍ مفصلي من فئة «الأمن القومي»، حيث الخطأ في التقدير أو التردّد في اتخاذ القرار المناسب قد يخلّف تداعيات وخيمة. فما أن بدأت التقارير العاجلة تصل الى رئيس الجمهورية حول مجريات الوضع في الشحار الغربي في عاليه يوم «الاحد الاسود»، حتى استعاد تلقائياً صور الاحداث التي عايشها في المنطقة حين كان ضابطاً في الجيش اللبناني. مرّ شريط الماضي الاليم أمام عينيه، بكل ما يحويه من أهوال ودروس، قبل أن يحسم خياره: «لن أسمح بأن تتكرّر في عهدي تجربة الـ83 في الجبل، وأنا لم أخض تلك التجربة بكل ما انطوت عليه من تضحيات، كي يعيد التاريخ نفسه الآن. الإمارات والمحميات تنتمي الى حقبة ولّت من دون رجعة».
شعر عون بأنّ الشابين اللذين سقطا خلال اطلاق النار في قبرشمون لم يكونا الضحيتين الوحيدتين، بل أنّ الرصاص العشوائي أصاب أيضاً ضحيتين أخريين هما هيبة الدولة ومصالحة الجبل، فكان القرار باستعادة الهيبة في أسرع وقت ممكن، وبالدفع نحو تأمين الشروط المطلوبة لتحصين المصالحة التي ثبت بالعين المجرّدة أنّها هشة. وعقب «موقعة» قبرشمون، ترسّخ اقتناع عون بأنّ التفاهم بين الاقوياء هو الذي يستطيع إنجاز المصالحة الحقيقية وتعزيز مناعتها، «مع الإقرار في هذا السياق بأنّ وليد جنبلاط يشكّل واحداً من هؤلاء، إنما ضمن حجمه التمثيلي الموضوعي، ومن غير أن يكون له الحق في الاستحواذ على «مقاطعة» داخل الدولة، وفق مقاربة المتحمسين لسلوك رئيس الجمهورية.
بالنسبة الى عون، لا يتحمّل الجبل المرهف أن يخضع لاختبارات مُكلفة ومحفوفة بالمخاطر، من النوع الذي سُجل أخيرًا، خصوصاً أنّ تداعيات أي مغامرة غير محسوبة، لن تبقى محصورة ضمن حدود جغرافية أو أمنية محدّدة، وانما ستتدحرج في اتجاهات عدة، «وهذا ما دفعه الى اتخاذ قرار سريع بإنقاذ الجبل والجمهورية من الفتنة»، على ما يؤكّد العارفون بما كان يدور في قصر بعبدا خلال الأيام الماضية.
وعندما ترأس عون اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، تصرّف على قاعدة «الأمر لي»، نافضاً الغبار عن شخصية «القائد العسكري» التي يستدعيها كلما اقتضت الضرورة، «فكيف حين تتعلق المسألة بحماية الاستقرار الداخلي ومنع الفتنة، حيث لا مجال لأي تساهل أو استرخاء في المعالجة»، يجزم اللصيقون به.
وحين أبدى أحد الحاضرين في الاجتماع خشية من وقوع فتنة درزية- درزية يدفع ثمنها المسيحيون مرة أخرى، رفض عون بحزم مجرد طرح مثل هذا السيناريو، ثم توجّه الى قائد الجيش العماد جوزف عون بما معناه «عليك بهم»، قائلًا له: «روح جيبن (قتلة الشابين في قبرشمون)»، في إشارة واضحة منه الى نيته الضرب بيد من حديد، الأمر الذي يفسّر خروج بيان المجلس الأعلى للدفاع هذه المرة عن إطار «اللغة الخشبية» او الكلاسيكية التي اشتهرت بها بياناته السابقة.
ويعتبر رئيس الجمهورية، أنّ تسليم المطلوبين أو القاء القبض عليهم، ثم محاسبتهم قضائياً، هو إجراء حتمي وغير قابل للنقاش، لأنّه ممر إلزامي نحو المباشرة في استعادة هيبة السلطة التي تصدّعت ونزفت في قبرشمون، «أما إذا كانت لدى وليد جنبلاط أزمة نابعة من هواجس معينة، فإنّ المعالجة تتمّ تحت سقف الدولة ايضًا، وعون مستعد للمساهمة في طمأنته وإراحته، انطلاقاً من موقعه الحاضن للجميع، لكن لا يجوز أن يجري تنفيس الازمة بتوتير الارض وشحنها، لأنّ من شأن ذلك أن يهدّد السلم الاهلي»، وفق ما يؤكّده القريبون من «جنرال القصر».
وما زاد انزعاج عون ممّا حصل في قبرشمون، هو أنّ جنبلاط كان قد فوّضه بإيجاد الحل المناسب لملف جريمة قتل علاء ابو فرج في الشويفات، حيث أنه بذل جهداً كبيرًا في هذا السياق، ولا يزال، «ولعلّه الرئيس الماروني الوحيد الذي حاول أن يرأب الصدع بين زعيمين درزيين هما جنبلاط وارسلان، انطلاقاً من حرصه على النسيج الدرزي»، على ما يلفت المحيطون به، متسائلين عمّا إذا كان العرفان بالجميل يتحقق عبر تهديد حياة صهره رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل والاعتداء على موكب الوزير صالح الغريب الداعم بمن يمثل لخط رئيس الجمهورية.