ليس خافيا على اللبنانيين أنهم يعيشون في "كانتونات طائفية" قبل الحرب وبعدها. الا أن العامل الجديد الطارئ على المشهد هو أنّها والأمراء القيمين عليها باتوا يكشّرون عن أنيابهم من دون خجل ويفرضون شروطهم وقوانينهم التي تعارض بمعظمها القوانين اللبنانية ونصوص الدستور ما يجعلنا نسير وبخطى متسارعة باتجاه تداعي أسس الدولة.
وشكّلت حادثتا "الحدت" و"الجبل" في الأسبوعين الماضيين مادة دسمة ترسّخ واقع الكونتونات، الذي بات يتجذّر في الذهنيّة اللبنانيّة رغم كل الكلام السياسي الجميل والمنمّق المُطالب بالنهوض بالدولة، وتعزيز عمل مؤسسات من خلال مكافحة الهدر والفساد والتصدي لكل الظواهر غير الشرعية. ففي بلدة الحدت، تفرض البلدية قوانينها وشروطها التي يعتبر كثيرون انها تناقض نصوص الدستور اللبناني بمنعها استملاك أو حتى استئجار غير المسيحيين شققا في المنطقة، وان كانت البلدية تؤكد أنّ ما تقوم به هو تطبيق حرفي للدستور لجهة عملها بالحفاظ على التنوع بالمنطقة والتصدي للتغيير الديموغرافي الحاصل.
ولا يجد الكثير من القيّمين على عدد من البلدات اللبنانية حراجة باقفال الطرق الرئيسية خلال احتفالات دينية، علما ان قسما كبيرا منها تُعتبر طرق دولية، ليتحوّل مئات اللبنانيين أسرى سياراتهم بانتظار انتهاء هذه الاحتفالات. وتسري هذه الظاهرة على المناطق والبلدات ذات الأكثرية المسلمة كما المسيحية أيضا، ما يجعل غير الملتزمين دينيا رهائن لدى أولئك الذين يؤدّون شعائرهم كاملة.
وشكّلت حادثة الجبل والمواقف التي صدرت خلالها وبعدها انعطافة كبيرة مع عودة الحديث عن ابواب للمناطق يتوجّب قرعها او عبورها، خاصّة وأن القسم الاكبر من اللبنانيين بات يعتبر ان خطوط التماس سقطت الى غير رجعة، فاذا بها تنتصب في الجبل أكثر المناطق حساسيّة مرسّخة مرة جديدة مفهوم "الكانتونات الطائفية".
ولن يكون بالجديد الحديث عن المناطق الشيعية وبخاصة في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والتي يتخذ الكثير منها طابع "الكانتون" سواء من خلال الحواجز القائمة فيها او العناصر التي تعتمد في كثير من الاوقات تنظيم السير، او من خلال بعض القوانين "المحليّة" التي تمنع مثلا بيع او شراء الكحول. وهو ما ينسحب على بلدات سنّية في عكار حيث هناك أيضا مفاهيم يتوجب على أيّ زائر الاطّلاع عليها لأنّه قد لا يصادفها في أيّ منطقة لبنانية أخرى.
وتبقى الظاهرة المشتركة بين "الكانتونات" هي ظاهرة قطع الطرق بالدواليب المشتعلة التي يعتبرها "أمراء الطوائف" سلاحا مجديًا في أي وقت لهم من منطلق انهم قادرون على شلّ البلد بالمطلق عند أيّة حادثة. ويعتبر مصدر سياسي ان ما يجعل هذه الظاهرة قائمة وتتجدد عند كل محطّة هو عدم تعاطي القوى المسلّحة الشرعيّة بحزم معها، وانتظار الامر السياسي من السلطات العليا لفتح الطرق، علما أنه يتوجب وجود قرار حاسم ونهائي بالتصدّي لأيّة عمليّة من هذا النوع وبالقوّة لحظة حصولها والقاء القبض على الفاعلين، لأننا بذلك فقط نكون قادرين على ضمان عدم تكرارها. أما ان ننتظر ساعة و2 ونحن نتفرج على شاشات التلفزة على عناصر حزبيين ملثّمين ومسلّحين وهم يقطعون الطرقات على المئات كما حصل في خلدة مساء الأحد بعدما كنا شهدنا قطع طرقات في مناطق في الجبل صباح اليوم نفسه، فهذا ما يسمح لآخرين في "كانتونات" أخرى للقيام بالمثل في فترات لاحقة اقتناعا منهم بأنهم قادرون على ايصال صوتهم بهذه الطريقة من دون عقاب للتعدي على حقوق الناس بالتنقل بين منطقة وأخرى.
ولا يبدو أنّه في الافق القريب قدرة لهذه الدولة بمكوّناتها كافّة على الخروج من هذا المستنقع، خاصة وان القائمين على هذه الدولة هم أمراء الطوائف أنفسهم الذين يستفيدون معنويا وماديا من كانتوناتهم، ما يدفعهم في الكثير من الأحيان لدعم كانتونات سواهم بطريقة أو بأخرى، فقط حرصًا على استمراريّة هذا المفهوم على حساب مفهوم الدولة ومؤسساتها.