في الظاهر، اعتقد كثيرون أنّ الأحداث التي شهدها جبل لبنان الأحد الماضي مثّلت "نقمة" لرئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق وليد جنبلاط، بل تكهّنوا بأنّها قد تكون "بداية النهاية" له، بعد وقوعه في "الفخّ"، مدفوعاً ربما بالهواجس التي يعاني منها منذ فترة ليست بالقصيرة.
لكن، على أرض الواقع، بدا أنّ الأمور أخذت منحىً مختلفاً منذ اللحظة الأولى، وهو ما تجلى بالبرودة المُبالَغ بها من قبل "البيك" بالتعامل مع الأحداث، على رغم أنّها أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى، وكادت تأخذ البلاد إلى الفتنة والمجهول، وعلى رغم أنّها كرّست الجبل بمثابة "كانتون طائفي" يُمنع على الشركاء في الوطن دخوله من دون إذن.
وإذا كان كثيرون اعتقدوا أنّ جنبلاط وُضِع في الزاوية، فإنّ وجهة نظر مقابلة تقول إنّه نجح في تحويل الأحداث إلى "نعمة"، بل إنّه عرف كيف يقلب الطاولة على خصومه في مكانٍ ما، ممّن كانوا يخطّطون لعزله وإقصائه، وصولاً إلى حدّ الحديث عن خلق "جبهة معارضة"، قد يكون لقاء عين التينة الثلاثي أسّس لها بشكلٍ أو بآخر...
لا تراجع؟!
كثيرة هي المآخذ التي سُجّلت على "الحزب التقدمي الاشتراكي" بعد أحداث الجبل الأخيرة، التي مثّلت ظاهرياً رافعة لخصوم جنبلاط في الساحة الدرزية، وتحديداً رئيس "الحزب الديمقراطي اللبناني" النائب طلال أرسلان، ومن خلفه وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب، ورئيس حزب "التوحيد العربي" الوزير السابق وئام وهاب، علماً أنّ جنبلاط نفسه اعترف بوجود حيثية معيّنة يمتلكها هؤلاء، في حديثه إلى الصحافيين بعد الاجتماع الاستثنائي الأخير للمجلس المذهبي الدرزي.
من المآخذ مثلاً، تكريس الجبل منطقة مغلقة يحرّم على أيّ كان زيارتها من دون المرور عبر البوابة "الجنبلاطيّة"، وهو ما تجلّى من خلال قطع الطرقات احتجاجاً على زيارة رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل إلى منطقة عاليه، وكذلك انتشار السلاح بين أيدي المواطنين، ما يبرّر سقوط الدم، ولو "دفاعاً عن النفس" وفق النظرية التي يروّجها "الاشتراكيون"، في تكريسٍ لظاهرة كان جنبلاط، للمفارقة، "رأس الحربة" في انتقادها واستهجانها في مناطق أخرى.
لكنّ كلّ ذلك، على رغم خطورته وحساسيّته، لم يضع رئيس "الاشتراكي" في موقع عجز وضعف، كما توقّع كثيرون. فعلى عكس كلّ الترجيحات، تعامل "البيك" ببرودة شديدة مع الأحداث، حتى أنّه لم يقطع جولة خارجية كان يقوم بها، بل إنّه لم يدعُ إلى التهدئة وضبط النفس، كما يفعل في العادة، ولم تصدر عنه في اليوم الأول، أي كلمة "تعزية"، ولو من باب رفع العتب، في وقتٍ وجد الوقت مناسباً للتغريد معزّياً برحيل أحد أعضاء المجلس الدستوري، القاضي سهيل عبد الصمد.
ويفسّر كثيرون هذا السلوك "الجنبلاطي"، بأنّه إصرارٌ على عدم الانكسار، أو الهزيمة، أو حتى التراجع، في مقابل الضغوط التي تعرّض لها، تفادياً ربما لتكرار سيناريوهات سابقة، ومنعاً لاستفراده من قبل أحد، وهو ما أسهم أصلاً في تكريسه "رقماً صعباً" في المعادلة، من خلال الوساطات التي بدأ العمل عليها على أكثر من اتجاه، والتي وجد فيها ربما بوابة للعودة بقوة إلى المشهد، وهو ما تجلى من خلال انفتاحه على الحلول، بدليل الحديث الإيجابي مثلاً الذي صدر عن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إزاءه.
مكاسب متعدّدة...
لكن، مقابل هذا الانفتاح، كان لافتاً مضيّ جنبلاط إلى الأمام في "المواجهة" مع خصومه، وتحديداً الوزير باسيل، بدليل الكلام عالي السقف الذي صدر عنه بعد اجتماع المجلس المذهبي الدرزي، خصوصاً لجهة دعوته رئيس الجمهورية ميشال عون إلى الحدّ من تصرفات الأخير، التي وصفها بـ"الصبيانية"، مصوّباً في الوقت نفسه على "الاستفزاز" الناجم عن شكل وحجم الموكب الذي رافقه في زيارته إلى عاليه.
ولعلّ هذا السقف العالي يختصر في مكانٍ ما "المكاسب" التي استطاع جنبلاط أن يجنيها من أحداث الجبل، على رغم كلّ شيء، والتي أعادت الاعتبار له، من خلال "التعاطف" الذي حصده من جانب العديد من القوى السياسية، ولو "نكايةً بباسيل"، بعد "التهميش" الذي عانى منه في الآونة الأخيرة. ولعلّ لقاء عين التينة الثلاثي الذي جمعه مع رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة سعد الحريري الدليل الأسطع على ذلك، خصوصاً بعد الاشتباك الكلامي الأخير الذي دار بين "الاشتراكي" و"المستقبل"، وأوحى بأنّ العلاقة بين الجانبين ليست على ما يُرام، بل هي في أسوأ حالاتها، فإذا بأحداث الجبل تنجح في ترميمها، برعايةٍ مباشرةٍ من بري.
وإذا كان بري والحريري حرصا خلال اللقاء، وفق ما تمّ تسريبه، على تبديد هواجس جنبلاط من نوايا لإقصائه وعزله، خصوصاً في التعيينات، ثمّة من يتحدّث عن "مكسب" أكبر قيد التحقيق، وهو ولادة جبهة وزارية مضادة لتلك التي يقودها الوزير باسيل، قوامها الثلاثيّ المذكور، إلى جانب "تيار المردة" و"القوات اللبنانية"، وكلّها جهات سياسية تعتبر نفسها متضرّرة من أسلوب باسيل، ولو بنسبٍ متفاوتة، علماً أنّ الحريري المتمسّك حتى النهاية بالتسوية المبرمة مع رئيس الجمهورية، غير قادر على "هضم" العديد من تصرفات باسيل المحرجة له، وآخرها تعطيل جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، ولو بنوايا حَسَنة.
وقد تكون الترجمة الفعلية الأولى لهذه "الجبهة" من خلال الموقف من إحالة أحداث الجبل على المجلس العدلي، ففيما يصرّ "التيار الوطني الحر" على ذلك، وهو ما جعله يعطّل جلسة الحكومة الأخيرة، تشير معظم التقديرات إلى أنّ الأمر سيسقط إذا ما طُرح على التصويت، بفعل رفض "الاشتراكي" و"المستقبل" و"القوات" و"المردة" و"أمل"، علماً أنّ كلاماً واضحاً في هذا الإطار صدر في اليومين الماضيين عن كل من بري والحريري، لجهة "التريث" في الإحالة، أقلّه بانتظار التحقيقات الأولية التي من شأنها أن تكشف ما إذا كان الأمر فعلاً عبارة عن محاولة اغتيال مدبّرة لوزيرٍ في الحكومة، أم أنه حادثٌ فرديّ ليس إلا.
بين المبدأ والواقع...
في المبدأ، كان يمكن لأحداث الجبل أن تشكّل إدانة واضحة وصريحة لـ "الاشتراكي"، سواء كان ما حصل مدبَّراً، أم فردياً، لأسبابٍ واعتباراتٍ كثيرة، مناقضة لكلّ معايير "العيش المشترك" التي يتباهى بها "الاشتراكيون" قبل غيرهم.
وفي المبدأ أيضاً، كان يمكن للوزير جبران باسيل أن يخرج "منتصراً" بعد ما حصل، خصوصاً أنّه ظهر بمظهر "المنفتح"، الذي يمدّ اليد لشركائه في الوطن، فيما يقابله الآخرون بقطع الطرقات عليه، ورفض التلاقي تحت أيّ عنوانٍ من العناوين.
لكن، في لبنان، تنقلب الأمور رأساً على عقب، لدرجة أنّه وبدل تصحيح ما حصل، بدأ الحديث عن رفض زيارة باسيل إلى طرابلس وغيرها، تكريساً لمنطق "الإغلاق"، منطقٌ لا يعرف أحد كيف يمكن أن يبني "دولة" بالمعنى الحقيقي والواحد للكلمة...