نسي اللبنانيون بلحظات طبقات القلق والفساد الرسوبيّة التي تنهشهم وتراكمها دولتهم فوق صدروهم، عبر تقنين الأكل والماء والهواء والضوء عنهم لمصلحة حفنةٍ من أصحاب الحروب ةالأسلحة والمزاريب وأقنية الهدر والسرقات الطائفية التي تصب تحت ذريعة التقشّف في الموازنة العامّة حيث لم يبق من شعب لبنان سوى الجلد والكراعين.
ونسوا أنّ بضعة أشخاص يأتمرون بما يتناسب بطلبات البنوك والمؤسّسات الدوليّة المستوردة، أسقطوا لبنان بلحظةٍ في لغة السلاح المدفونة في جبل لبنان ، حيث مشاهد محاولة اغتيال وزيري الخارجية والنازحين التي أودت بحياة إثنين من المرافقين ورمت الجميع في الصور والغموض والتحديات في الأسباب والنتائج وتقاذف المسؤوليات ورميها في حضن القضاء....والقدر وتبويس اللحى وطمس الحقائق.
وذكّرني الأمر بشعار لبناني:يتداوله زعماء الحروب في لبنان: القضاء للضعفاء! عاد الصراع مظهراً شباباً سكنتهم المذهبيّة الثقافية والسلوكية، وأظهرت تمسّكاً بالسدود والتحدّيات نفياً لإمكانات التلاقي والتجديد. كان يمكننا اعتبار الجسم المفكّر، في بلدٍ ما، روح الحضارة، يصفّي التاريخ من أدران الماضي فيولّد الأفكار مقابل من يديرها وينظّمها أو يكرّر، لكن اختلاط الأمنيين والسياسيين والإعلاميين في زمنٍ واحد وبلد واحد حول حدث واحد هي معضلة بالنسبة للمفكّرين، حيث لا قيمة للأفكار في نسف الطائفية المطبقة على لبنان، بما قد لا نعثر عليه على سطح الكرة. ما زال لبنان فوق ظهر الوحش منذ ال 1975 وما قبلها حتى ال 1989 واتفاق
الطائف / النص/ الدستور الجديد للبنان الذي سحب دسمه بتقاسم الدول المتعددة للنيران. أطلّ الوحش متحرّكاً من كوعٍ إلى كوع في أرض عداء المسؤولين حول المناصب، وتقاسم الحصص أرضاً وماء وفضاء من مقالع الصخور والكسّارات ومنتجعات السباحة والسياحة ومواقع الإرسال المزدحمة بالإذاعات والشاشات. يقيم هذا الوحش في الصدور، لم يرحل مع الشهداء وركام لبنان بتبادل الخطب الصفراء والمصالحات الرخوة والمآدب، لأنّ الماضي يستدعي النار قابضاً على الحاضر والمستقبل الوطني. يمكنني بكلمة واحدة، وبلا تعميم، اختصار تاريخ لبنان بين إنسانين / لسانين، لهما دلالات واسعة وشعار كريه برموزه أضع تحته خطّاً بالأسود: أحدهما يتلفّظ بالقاف، والآخر يتلفظها ب «الآف»، كأن يقول واحدهم مثلاً: بأنّ الماضي: «قفز من قبر شمون قفزاً مقيتاً وقتالاً فوق قلوبنا ويقلقنا قلباً قلباً ودقيقة بدقيقة»، بينما يقول المسيحي بأنّ الماضي: «أفز من أبر شمون أفزاً مئيتاً وإتالاً فوأ ألوبنا ويُؤلِؤنا ألباً ألباً ودئيئة بدئيئة». أخذت تلك القاف تشظيّاتها الحزبيّة والسياسية المتعدّدة بين عربية وإسلاميّة ومسيحية وأعجمية وأجنبيّة والخطورة أنّها لطالما التمعت سيوفاً مسلوللةً تقطع بين القاف والقاف، وبين الصدر والطفل الرضيع فتقلع الأرض أبداً من بذرة السلام والاستقرار. هذه هي المعضلة الوحشيّة التاريخية في لبنان، باعتباره بلداً عربيّاً أو ذا وجه عربي، كلّفتنا الكثير بين المسيحيين والمسلمين وتقوى تشظّياتها بين مذاهب أصحاب العقيدة الواحدة. لن أعود إلى هذا التاريخ المفتقر إلى دسم الفكر وأيضاً: 1- لأنّ من يقرأ هذا التاريخ، اليوم، يجده قارة مهشّمة مفتوحة بسرعة على قطع «البازل» يتناولها المفكّرون والمؤرخون والإعلاميون حقباً وأصنافاً توحي بالتنوع لكنها غير متنوعة، حافلة بالتحيّزات والنفوس المشحونة التي تصرخ بالموضوعية، إلى درجة تذكّرني بالمفكّر الفرنسي جان بول سارتر القائل: «أنا موجود إذن أنا أفكّر»، مقدّماً الصحة الجسدية والنفسيّة على صحة التفكير والمفكّرين، وقد شنّ أقسى نقده على المفكّرين، ويذكّرني أيضاً بريمون آرون الذي رأى في المفكّرين طبقة مخدّرين خارج الواقع. 2- ولأنّ المفكّر أو الكاتب المدّعي الحريّة والاستقلاليّة بالتفكير يخال نفسه مهمّاً ومؤثّراً، لكنه سرعان ما يكتشف، مع أوّل رصاصة، أنّه مقاتل، صامت، أو لا شيء، على الرغم من أنّ الصحافة تتقاطر عليه أحياناً، لترفعه بضوئها إلى الصف الأوّل، وكأنّه نوع من الموضة التي تجذب الناس ليس أكثر.
3- ولأنّ لكلّ شاشة سيّداً ونظاماً وإعلامياتها الفاتنات المتشاوفات المحميّات والمغاليات اللواتي يتجاوزن الإعلاميين والقضاء والمفكّرين والعقلاء حيال الأحداث. يعثّرن مضيفيهم ويحقّرنهم في رمي الأسئلة الخبيثة الشائكة من دون كوابح تحقيقاً لا واعياً لحريّة المرأة / المرآة اللبنانية الملحوظ، وكأنّهن «سلطة السلطات». لا يسقط القول أو النصّ في الآذان والفهم: إن لم يكن من مفردات الأحزاب. أنت مرذول في الإعلام مستقلاًّ، لأنّ الانقسام يصبح على حدّ السيف في انتقاء التعابير، وإلاّ فمصيرك سلّة المهملات أو الريموت كونترول. 2- لا تأثير للمفكّرين وأساتذة الجامعات ومستشاري الحلول، أو ما يعرف ب «الأنتليجنسيا» في بلادنا. هم ليسوا طبقة يمكن الدخول والخروج منها، ولا يمكن توريثها. غالباً ما ينشر المفكّر الكتب والنصوص يكدّسها، أو يبتكر فكرةً قد تكون جديدة، مع أنّ لا جديد تحت الشمس، لكنه يدرك أنّ الصحافة هي التي تبيع الكتب، لأنّها تبيع أكثر من دور النشر. المفكّر قد يصوغ أسئلةً للسلطة لا أجوبةً، وهو يدرك أنّ السلطة هي سلطة الآخر التي لا يشعر المفكّر بها، وهي لا تشعر به لكونه مشغولاً بالسؤال الجوهري: من ينزل لبنان عن ظهر الوحش؟