«السعي المحموم نحو العظمة يودي إلى المهالك»
«الديماغوجي» لفظة يونانية قديمة تعبّر عن شخصية تتفنن باللعب على الكلام والمشاعر والغرائز، وذلك لتضليل الناس وإدارتهم بشكل فردي أو جماعي نحو أهداف لا تتناسب أحياناً والواقع ولا تؤدي بالضرورة إلى نتائج محمودة.
لا يظهر الديماغوجي من العدم، بل هو نتاج واقع شخصي يتفاعل مع ظروف إجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية، ومن ثم ينطلق لإدارة مجموعات من البشر بتأثير كلماته وخطاباته للسير على حافة الهاوية، وأحياناً، مباشرة إلى قعر الهاوية.
وإن كان البعض يظن أنّ مَن يتبع الديماغوجي هو الجاهل دون غيره، فهو لم يقرأ التاريخ بتمعن!
قد تكون المانيا المثل الصارخ لكيفية تسلل الديماغوجي، بتفاهته وخطاباته السخيفة والمفكّكة، إلى أكثر العقول معرفة وثقافة لمجرد أنه أتى في الوقت المناسب وفي لحظات الضعف والهشاشة. فهذا البلد الذي أعطى للبشرية المطبعة والشعراء والأدباء والموسيقيين والحقوقيين والفلاسفة الكبار، قاده واداره وذهب به إلى الخراب أتفه الناس وأقلهم ثقافة وأدناهم حكمة.
أدولف هتلر، رسام من الدرجة الرابعة، محارب وجريح في الحرب العالمية الأولى، أخفق في كل شيء، لكنه عرف كيف يتسلق كالذباب على جرح ألمانيا المهزومة والذليلة، وعلى آلام الملايين من الشعب الالماني الذي أصبحت عملة بلاده تقدر بالوزن لا بالقيمة الشرائية. انبرى الفوهرر بخطاب هزلي، وحركات مسرحية، وشعارات لا تمتّ إلى المنطق بشيء، متنقلاً من مدينة الى أخرى بين أنصاره، داعياً إلى «استرداد حقوق الشعب»، متهماً اليهود بالتسبّب بالأزمة الإقتصادية وبسرقة مال المانيا وبالتواطؤ مع الشيوعية حيناً والرأسمالية في أحيان أخرى. خطاب هتلر هذا في وقت الإفلاس الفكري والإنساني، استدرج كبار العلماء والمثقفين والصناعيين ليلحقوا به، وحتى «مارتن هيدغر» أعظم فلاسفة القرن العشرين، لم يستحِ من وضع علامة الصليب المعكوف على ساعده في يوم من الأيام! في النهاية، ما ابتدأ وبدا في أول الطريق حلماً بالمجد والعظمة، تحوّل كابوساً لا يشبه إلا لوحة الرسام «بوتيتشلي» عن جحيم «دانتي» في الكوميديا الإلهية.
ما لنا ولهتلر الآن، وما السبب الدافع لكي نفتح صفحات التاريخ المظلمة، الهدف ليس لاستدراج اللعنات على هتلر، فقد مات على حد علمي، وإن صدّقنا أساطير هروبه، فأظن أنه لم يعمر حتى الآن. وليس الهدف أبداً فتح سجل المحرقة ومطالبة الشعب الألماني بدفع ثمن جريمة كانت على أيام آبائهم وأجدادهم. فالتاريخ يُدرس لنتعلم منه العبر ونتحاشى السير على حافة الهاوية بعد أن نعلم أنّ غيرنا قد سقط قبلنا، وأسقط معه حضارةً وأوطاناً وأرواحاً لا تحصى.
تحلّ الكارثة عندما يأتي زعيم دماغوجي جديد ليفتح صفحات الماضي وينتقي منها ما يقتل الحاضر ويضع المستقبل في خبر كان. هذا ما يحدث اليوم بفتح ذاكرة حربنا الأهلية بشكل انتقائي وخبيث لمجرد الإستخدام الدنيء في خطاب تحريضي عندما لا يملك الخطيب في جعبته ما يقنع به الناس ويستدرجهم به للتصفيق له.
«مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بأول حجر» متى 8- 1-11. هذا هو التلخيص الوحيد الذي خرجتُ منه أنا من سجلّ الحرب الأهلية اللبنانية. لم يكن في تلك الحرب لا شياطين ولا ملائكة، لا أخيار ولا أشرار، لا مدافعون ولا معتدون... فالكل كان يرى نفسه أو دوره بناءً على وجهة نظر، وعلى سحب صفة الإنسان من الآخر ليستسهل قتله أو استعباده. والأهم هو أنه لم يكن في تلك الحرب ما هو قوى شرعية وما هو ميليشيا! فحتى الجيش انقسم وتحوّل ميليشيا مسلحة يقودها زعيم ميليشيا أو رئيس أو قائد، لا فرق مادام البلد كله منقسماً والشرعية ضائعة بين الذين كانوا يدّعون امتلاكها دون غيرهم. وفي تلك الحرب بالذات حدثت مجازر في حق أبرياء من كل الأطراف، كان البعض يسمّيها تجاوزات وإن استفاد من نتائجها ولم يحاسب مرتكبيها، وآخرون كانوا يتفاخرون بها على أساس انها من ضرورات إرهاب الخصم ودفعه إلى الإستسلام!
لكن المؤكد أنّ التفاصيل لا يمكن أن تُقرأ إلّا في سياق الحرب. فعندما قصفت مدفعية الجيش الذي كان تحت قيادة العماد ميشال عون بيروت الغربية كان ذلك في سياق الحرب المفتوحة، وكذلك عندما قطعت الماء عن أهلها، وليس من المفيد اليوم جعل الموضوع من عدة الشغل في الخطابات، لمجرد نكاية الآخر. ومَن تحدّث عن اغتيال رئيس وزراء طرابلسي لحنقه من ردة فعل أهل المدينة على زيارته وهزال الإستقبال، كان يجب أن يتذكر بأنه يدافع عن المتهمين بقتل رئيس وزراء آخر ومعه العشرات من الآخرين من مواطنين وسياسيين.
لست أدري إلى ما يسعى وزير خارجية لبنان وزعيم التيار الرئاسي؟ ولا أظن أنه يدرك ما يقوم به وبتداعياته، لكن المؤكد أنّ سعيه المحموم إلى عظمة شخصه وتألقه، تسير بالبلد على حافة هاوية لا مجال لاستدراك السقوط فيها. كنت أنتظر أن يتّعظ من كارثة الجبل ويأخذ فرصة لإعادة التفكير ودراسة الحسابات، لكن الشيء الوحيد الذي رأيته هو أشبه بتصرف المقامر المفلس الذي، بدل أن يلملم ما تبقى منه ويعود إلى المنزل، يراهن على أرواح أبنائه وأحفادهم وهو يعبث على حافة الهاوية.