يبدو في العلن كأنّ العرب هم الذين يؤخِّرون «صفقة القرن». ولكن، في السرّ، إسرائيل هي التي تفضّل التأجيل وإتاحة الفرصة لإجراء تعديلات بالغة الأهمية على بعض بنودها. لذلك، هي تشجِّع الرفض العربي حالياً. ولاحقاً سيكتشف العرب أنّ الرضوخ لـ»صفقة القرن» هو خيانة للقضية الفلسطينية، لأنه تنازُلٌ عن المبادئ... لكنّ رفضهم لها هو أيضاً خيانة، إذا تبيّن أنّ المعروض عليهم اليوم أفضل مِمّا سيُعرَض بعد حين!
قبل أيام، أعلن الإسرائيليون صراحةً رفضهم أحد أبرز بنود «الصفقة» وهو المعبر الآمن بين الضفة الغربية وغزة. وكشفت صحيفة «إسرائيل هيوم» أنّ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتوجّس من هذا المعبر الذي سيكلف نحو 4 مليارات دولار، لأنه سينقل «إرهاب» «حماس» إلى الضفة.
بالنسبة إلى إسرائيل، يجب أن يبقى الشرخ في قيادة الفلسطينيين بين «حماس» و«فتح». فهذا أفضل. وفي الأشهر الأخيرة، شنَّت إسرائيل حرباً على «حماس» في غزّة، لكنها فضّلت وقفها عند حدود معينة. فهي لا ترى مصلحة في انهيار الحركة هناك. وعلى العكس، إنّ وجود ثنائية قيادية للفلسطينيين، مدعومة بثنائية جغرافية (غزة- الضفة الغربية) يريح إسرائيل.
ولكن، هذا نصف الحقيقة، أمّا الحقيقة الكاملة فهي أنّ إسرائيل لا تريد- في نهاية المطاف- وجوداً فلسطينياً في الضفة الغربية. ولذلك، يعتقد الخبراء في الشأن الإسرائيلي أنّ هذا الجانب من «صفقة القرن» لن يُكتَب له التنفيذ.
ووفقاً لما رشح حتى اليوم، تنصّ «صفقة القرن» على الآتي في ما يتعلق بالضفة الغربية: تضم إسرائيل التكتلات الاستيطانية اليهودية الكبرى هناك وتُخلى المستوطنات المنعزلة، ويجري تبادل الأراضي مع الفلسطينيين. وتكون المسؤولية الأمنية لإسرائيل بالكامل. ويبقى غور الأردن في يدها. وينشأ معبرٌ «آمن» بين الضفة وغزة تشرف عليه إسرائيل.
وبموجب اتفاقية أوسلو 1995 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، تمّ تقسيم أراضي الضفة إلى ثلاث فئات:
- المناطق «أ»، تخضع للسيطرة الفلسطينية إدارياً وأمنياً، وهي تشكّل نحو 18% من الضفة.
- المناطق «ب»، خاضعة إدارياً للسلطة الفلسطينية، لكن السلطة الأمنية في يد إسرائيل. ومساحتها أيضاً تقارب 18.3% من الضفة الغربية.
- المناطق «ج»، وهي خاضعة بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، وهي الأوسع إذ تتخطى مساحتها الـ61% من الضفة.
وعلى مدى عقود، عمدت إسرائيل إلى تكثيف بناء المستوطنات في المناطق «ج» وحجبت تراخيص البناء عن الفلسطينيين بنسبة 95% وهدمت المنازل المخالفة. وتخشى السلطة الفلسطينية قيام إسرائيل بإطلاق يد «مجالس المستوطنات» للسيطرة على مزيد من أراضي الفلسطينيين، خصوصاً في المناطق «ج».
ماذا يجري اليوم في الضفة؟
الأخطر أنّ الجيش الاسرائيلي يعدّ خرائط جديدة لأراضي الضفة وملكياتها عن طريق العودة إلى القيود العقارية في الفترتين العثمانية والبريطانية، ما يثير الهواجس من إلغاء ملكيات فلسطينية كثيرة. وتردّدت معلومات عن نشوء غرفة تجاريّة فلسطينيّة مُشتركة مع المُستوطنين تمارس نشاطها في الضفة الغربية.
ووسط هذه الأجواء، صدرت مواقف عن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وقوى يمينية عدّة تثير شكوكاً في أنّ إسرائيل تحضِّر الأجواء لقرار وشيك يقضي بضم الضفة الغربية، على غرار ضمّ الجولان، وتكريس القدس عاصمة لها.
وفي اعتقاد المتابعين أنّ نتنياهو يريد الاستفادة من وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض لتحقيق هذه الأهداف الكيانية. وهذا يعني أنه سيسرع الخطوات لضمّ الضفة قبل دخول ترامب عامَه الأخير في الحكم، العام المقبل. وعلى الأرجح، سيبرز هذا الاتّجاه في الخريف، بعد إنجاز الانتخابات التشريعية في إسرائيل وتشكيل حكومة جديدة.
إذاً، الرفض الفلسطيني لـ»صفقة القرن»، كما يطرحها الأميركيون سيكون أفضل تبرير لإسرائيل كي تتشدّد في شروطها وتطالب بتعديل «الصفقة» التي هي أساساً في مصلحتها بالكامل، لجهة التخلص من حقّ الفلسطينيين في العودة وحلّ الدولتين...
ومن المناسب لإسرائيل أن يرفض الفلسطينيون والعرب «الصفقة»، لكي تقوم بتدبير «ابتلاع» الضفة الغربية بهدوء: في البداية، تبتلع ثلثي المساحة، أي المناطق المصنّفة «ج». ومن ثم الثلث الباقي، تدريجاً، أي المناطق المصنّفة «أ» و«ب».
وستكون قمة الخبث الإسرائيلي في دفع الفلسطينيين والعرب ليحققوا هم أنفسهم الهدف، أي جعل «الصفقة» لمصلحة إسرائيل 100% بعد «تنظيفها» تماماً من البنود التي تتضمّن الحدّ الأدنى من المصالح الفلسطينية في الضفة، ولو شكلياً (الإدارة الجزئية لبعض المناطق والتواصل مع غزة من خلال المعبر الآمن).
إذاً، المتوقع قريباً أن تعلن إسرائيل ضمَّها الضفة الغربية. وبالتأكيد سيحظى ذلك بدعم أميركي، كما ضمّ الجولان أخيراً. وستكون هناك موجة رفض واعتراض عربية عارمة. ولكن، الضمّ سيتكرّس واقعياً، فيما الرفض سيبقى مجرّد موقف على الورق وفي المنابر!
والمشكلة أنّ العرب يصلون متأخرين دائماً. وقمة طموح الفلسطينيين اليوم أن يحصلوا على ما رفضوه قبل ربع قرن. وأما ما رفضوه قبل نصف قرن فبات حلماً وطنياً جميلاً. والآتي أعظم.