خلال المرحلة الذهبيّة لقوى "14 آذار"، كانت "الزكزكات" قائمة بين كل من حزبي "القوّات اللبنانيّة" و"الكتائب اللبنانيّة"، لأنّهما "يأكلان من الصحن نفسه"-إذا جاز التعبير، إن على المستوى السياسي الإستراتيجي العام أو على المُستوى الشعبي، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من حزازيّات ومن حرتقات سياسيّة وإعلاميّة كانت خافتة وخلف الكواليس في أغلب الأحيان. لكنّ التباينات والخلافات التكتيّة تراكمت بين الطرفين خلال العقد الأخير، وُصولاً إلى مرحلة الإفتراق الكامل خلال مرحلة "التسوية الرئاسيّة"، وما رافقها من تنافس ميداني حادّ، بفعل طبيعة القانون الإنتخابي الجديد، إنتهت بظُهور حزب "القوّات" في موقع شعبي مُتفوّق بأشواط على حزب "الكتائب"، الأمر الذي فاقم من غضب الثاني على الأوّل.
وخلال الساعات الماضية، أسفر إستخدام رئيس "الكتائب" النائب سامي الجميّل لكلمة "إستسلام" في وصفه ما قام به حزب "القوّات"، وكذلك "تيّار المُستقبل"، عند مُوافقتهما على "التسوية الرئاسيّة"، عن تفجّر حرب بيانات إعلاميّة بين الطرفين مَصحوبة بتهجّمات مُتبادلة على بعض مواقع التواصل الإجتماعي. فما هي وجهة نظر كل من الحزبين إزاء التطوّرات، وكيف سينتهي هذا الخلاف العلني المُستجدّ؟.
من وجهة نظر حزب "الكتائب اللبنانيّة"، كان يجب عدم الدُخول في ما صار يُعرف بإسم "التسوية الرئاسيّة" التي أفضت إلى إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة، وإلى إقرار قانون إنتخابات نيابيّة جديد وفق مبدأ التصويت النسبي مع "الصوت التفضيلي"، لأنّ هذه الخطوة منحت "حزب الله" اليد الطولى على مُستوى الحُكم في لبنان، وأوصلت أغلبيّة واسعة من القوى المُؤيّدة والحليفة له، إلى السُلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة. ودائمًا بحسب وجهة نظر حزب "الكتائب"، أنهت "التسوية الرئاسيّة" عمليًا أي مُواجهة فاعلة لمشروع "حزب الله" من قبل "القوى السياديّة"، وباتت السُلطة مُدارة من قبل قوى "8 آذار" بالتحالف مع "التيّار الوطني الحُرّ" الذي زاد من إنحيازه إلى جانب محور "المُقاومة والمُمانعة"، من دون أن ننسى التغلغل الكبير داخل الإدارة الرسميّة من جانب "الوطني الحُرّ" و"الثنائي الشيعي"، وذلك وسط عجز باقي الأطراف عن مُواجهة هذا المنحى. ويعتبر حزب "الكتائب" أيضًا أنّه من الضروري على "القوات" العودة عن الخطأ، عبر الإستقالة من السُلطة والإنتقال إلى المُعارضة، ووقف التسليم على بياض بما يكتبه "حزب الله" و"التيار الوطني الحُرّ" من سياسة للبنان، أكان على المُستوى الداخلي أو الخارجي، إلخ.
في المُقابل، ومن وجهة نظر "القوات اللبنانيّة"، لم يكن من المُمكن إبقاء حال الإهتراء التي كانت قائمة في ظلّ مرحلة الشُغور الرئاسي، وقيام الحُكومة بتصريف الأعمال، وكان من الضروري بالتالي إنتخاب رئيس للجمهوريّة، والسماح بإعادة دوران عجلة الدولة وعمل مؤسّساتها بشكل طبيعي، وهي خُطوات تُمثّل نقيضًا للدويلة التي تستفيد من أي فراغ في السُلطة الرسميّة لتقوية نُفوذها. وتُذكّر "القوّات" أنّ دُخولها في "التسوية الرئاسيّة" جاء بعد أن دفعت التوازنات الإقليميّة والدَوليّة، إضافة إلى الوضع الداخلي البالغ السوء، برئيس "تيّار المُستقبل" إلى البحث عن مخرج-حتى ولوّ عبر إنتخاب رئيس من صلب قوى "8 آذار"، فبادرت "القوات" عندها إلى طي صفحة الخلاف المُزمن مع "التيّار الوطني الحُرّ"، ووافقت على إنتخاب العماد عون رئيسًا، بناء على تفاهمات على سلسلة من المبادئ السياسيّة الواضحة، والتي لا علاقة للقوّات بأي خلل تطبيقي فيها-في حال حُصوله! وذكّرت "القوات" أيضًا أنّ حزب "الكتائب" كان من بين أوائل الخارجين عن تحالف قوى "14 آذار" وتغريده خارج السرب في أكثر من مناسبة منذ سنوات طويلة، وُصولاً إلى مُشاركته في حكومة رئيس الحكومة السابق النائب تمام سلام، بحصّة من ثلاثة وزراء، يعود إثنان منهم إلى "القوات"، وقد جرى تجييرهما إلى "الكتائب" بعد أن رفضت "القوات" المُشاركة في السُلطة التنفيذيّة آنذاك، بينما دُخول "القوات" السُلطة حاليًا، جاء بعد أن جرى تشكيل الحكومة بناء على الحجم السياسي والشعبي لمُختلف القوى السياسيّة والذي تظهّر بدقّة في الإنتخابات الأخيرة، بغضّ النظر عن تفاصيل الحصص والمناصب الوزاريّة والتي تنازلت "القوّات" طوعًا عن بعضها، ليس من باب الإستسلام بل من باب تسهيل عودة الحياة الطبيعيّة للبنان، بعد شلل كارثي لسنوات. ودائمًا ومن وجهة نظر "القوات"، إنّ خطوتها الإيجابيّة تجاه "التيّار"، هدفت أيضًا إلى إزالة حقد موروث في نُفوس الكثير من مُؤيّدي الطرفين، وهو هدَفٌ لا يُمكن تحقيقه من دون تنازلات، بمعزل عن النتيجة التي إنحرفت أخيرًا عن وجهتها لأسباب لا علاقة للقوّات بها أيضًا. وبالنسبة إلى الإستقالة والإنتقال إلى المُعارضة، فإنّها خيار قائم دائمًا، لكنّ إعتماده في هذا التوقيت لن يُسفر عن أي إنعكاسات إيجابيّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مطلب إجراء إنتخابات نيابية باكرة، ما يستوجب بالتالي، الإستمرار في الدفاع عن المبادئ التي آمن بها جُمهور قوى "14 آذار"، من داخل السُلطة، والوقوف سدًا منيعًا بوجه مشاريع حرف سياسة لبنان العامة من جهة، وبوجه المشاريع التي تُخفي في طيّاتها روائح الفساد من جهة أخرى.
وبالنسبة إلى التوقعات المُرتبطة بمُستقبل العلاقة بين كل من "القوات" و"الكتائب"، فإنّ تعليمات حزبيّة داخليّة أعطيت للمُناصرين وللمُؤيّدين، بعدم الدُخول في أي سجالات لا معنى لها، وتمنح الخُصوم المُشتركين الفرصة للإستفادة من هذا الإنقسام. وفي الوقت عينه، فإنّ النظرة التكتيّة المُتباعدة حاليًا بين "القوات" و"الكتائب" ستُبقي حال التوتّر قائمًا بين الطرفين، خاصة أنّ "الكتائب" ماض في خطّه المُعارض الشرس ضُدّ كل أركان السُلطة، على الرغم من أنّ هذه السياسة التي إعتمدها عشيّة الإنتخابات النيابية لم تمنح "الكتائب" أي مكسب سياسي أو شعبي يُذكر، بينما "القوات" ماضية بسياسة مُتّزنة ومدروسة، تجمع بين الليونة حينًا والتشدّد حينًا آخر، في ظلّ تمسّك تام بالرؤية الإستراتيجيّة المُتوارثة منذ عُقود داخل البيئة الميسيحيّة، والتي تظهّرت بدعم شعبي جيّد جدًا لحزب "القوات"، الأمر الذي سمح بتصنيفه في مرتبة ثانية تكاد تكون مُنافسة من الندّ للندّ لموقع "التيّار الوطني الحُرّ"، في حال عدم إحتساب الأصوات الشعبيّة التي نالتها شخصيّات غير مُنتسبة للتيّار لكنّها مُتحالفة مع "العهد"، وهي أصوات مكّنت "التيّار" من التربّع بأكبر كتلة نيابية في مجلس النوّاب الحالي.