قبل نحو شهر تماماً، اتمّت الازمة السعودية (الخليجية)-القطرية عامها الثاني ودخلت الثالث، بعد ان قررت الرياض ومعها غالبية دول الخليج (ما عدا الكويت وسلطنة عمان) وعدد محدود من الدول العربيّة، فرض حصار على الدوحة بهدف عزلها واجبارها على التراجع عن قرارات سياسية اتخذتها. ولكن، كانت المفاجأة ان الحصار لم يعطِ ثماره، ولم يصل الى اهدافه المرجوة بسبب واحد وحيد اسمه: دونالد ترامب، الرئيس الاميركي الذي حيّر الجميع بقراراته وسياساته غير التقليدية، اعلن بشكل تام ودون اي احراج، وقوفه الى جانب قطر ودعمها في الخطوات التي اتخذتها للتخلص من آثار هذا الحصار، حيث بدا بالفعل انها لم تتأثر بالاجراءات السعوديّة، وخصوصاً من الناحية الاقتصاديّة والماليّة، لا بل زادت ارتياحاً على هذا الصعيد. الدعم الاميركي لقطر تم عبر العديد من التدابير الغريبة، وفي مقدمها عدم ممانعة واشنطن حصول تبادل تجاري قطري مع ايران، ناهيك عن الدعم الدبلوماسي والسياسي المقدّم لها في هذا المجال والذي وقف سداً منيعاً في وجه اي ضغط من جيرانها الخليجيين المعارضين لها. وبعد ان اتضحت الصورة اليوم، تبيّن ان السبب الكامن وراء هذا الدعم ليس سياسياً او دبلوماسياً او اخلاقياً، بل يختصر بكلمة واحدة: المال. فقد كشف ترامب منذ ايام قليلة عن ان "قاعدة العديد" في قطر والتي تعتبر الاكبر في المنطقة لناحية التواجد العسكري الاميركي فيها (نحو 11 الف جندي)، كلّفت 8 مليارات دولار اميركي لم تدفع منها الولايات المتحدة شيئاً، وان قطر التي تكفّلت بهذا المبلغ وتعهدت ايضاً بدفع مبلغ اضافي لتوسيعها.
هذه المبالغ ارضت ترامب، وشكلت ركيزة اساسيّة لاقواله ومطالبه للعديد من ادول (ومنها السعودية)، بدفع الاموال لقاء توفير الامن والامان، وهذا ما تعيشه قطر حالياً حيث يحتضنها الاميركيون ويمنعون أي اذى قد يلحق بها من القريبين والبعيدين، ليس حباً بهذا البلد، بل لمصالح استراتيجيّة وماليّة بطبيعة الحال. هذا الموقف المتقدّم للولايات المتحدة، يعتبر بمثابة تخلٍّ عن السعوديّة في هذه المسألة، مع تسجيل نقطة مهمة في هذا السياق، وهو انّ السعودية لا يمكنها ان تشتكي او تعترض، خصوصاً بعد ان دافع ترامب بشكل علني وواضح عن ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في قضيّة جريمة قتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي، حيث اخذت الامور منحى مماثلاً تقريباً لقضية قطر مع اختلاف اللاعبين والحالة.
"منشار" ترامب المالي يقطع "اشجار" الدولارات الخليجيّة واحدة تلو الاخرى، تحت ذرائع وحجج مختلفة، وليس من الخطأ القول ان الانتعاش الاقتصادي الذي حققه الرئيس الاميركي في بلاده وتبجّحه بتحسين الوضع المالي والاقتصادي وتخفيض نسبة البطالة، يعود بغالبيته الساحقة الى الاموال الخليجية التي جذبها بمبالغ كبيرة تفوق التصور من الدول العربية، ولكنها قادرة على تحقيق اهداف الرئيس الاميركي والتحضير لحملته الانتخابية لولاية جديدة.
بات واضحاً ان الحصار السعودي على قطر اسقطته "المنظومة الدفاعيّة الاميركيّة"، دون ان يعني ذلك تعكير صفو العلاقات بين البلدين رغم كل الكلام القاسي الذي صدر عن ترامب بحق الملك السعودي والمسؤولين في المملكة، كما عزّزت العلاقات مع قطر التي تستمر في اغداق الاموال على الاميركيين لتأمين الحماية لها عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، حيث من المتوقع ان تتحول "قاعدة العديد" الى قاعدة دائمة للاميركيين، تشكّل مركزاً اساسياً لهم للانطلاق في مهام عسكريّة ولوجستيّة في الشرق الاوسط والخليج وجوار هذه البقعة الجغرافية، بعدما اثبتت فاعليّتها خلال الحرب على افغانستان والضربات الجوية التي استهدفت سوريا والعراق في خضم الحرب على الارهاب.
ويبقى السؤال عن مصير هذا التواجد العسكري الاميركي ليس فقط في قطر (ولو انه الاضخم)، بل في الكثير من الدول العربيّة، وعن اهدافه المستقبلية وغاياته.