اعتقد البعض أنّ مسارعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إرسال مستشاره ايمانويل بون إلى طهران، في أعقاب بدء إيران تقليص تدريجي في التزاماتها بالاتفاق النووي، بالعودة إلى زيادة كمية اليورانيوم لديها ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 4.5 بالمئة، ستكون بداية جدية من قبل فرنسا والدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق أقله تقديم بعض الالتزامات من الترويكا الأوروبية بما خصّ بعض تعهّداتها في الاتفاق لإقناع القيادة الإيرانية بالعودة عن إجراءاتها القاضية بزيادة تدريجية في نسبة تخصيب اليورانيوم بما يلبّي حاجاتها منه لتشغيل مفاعل أراك وغيرها من الاحتياجات…
لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تكشف وهماً، فمستشار الرئيس ماكرون لم يحمل في جعبته ما يقنع إيران بجدية أوروبية بتنفيذ بعض التزاماتها أقله أن يكون فتح القناة المالية مرتبط بإحياء التجارة بين إيران وأوروبا بما يؤمّن لإيران شراء ما تحتاجه من سلع تخضع للعقوبات الأميركية وكذلك شراء أوروبا للنفط الإيراني… بل إنّ المستشار بون جاء يسوّق لحوار والتوسّط بين طهران وواشنطن وكأنّ فرنسا ليست شريكة في التوقيع على الاتفاق وعليها التزامات يجب أن تنفذها…
طبعاً هذا الاقتراح الفرنسي للعب دور الوسيط والدخول مجدّداً في مسرحية الحوار لدفع إيران للتراجع عن خطواتها التي تحرّرها من الالتزام الأحادي بالاتفاق النووي لم ينطل على المسؤولين الإيرانيين الذين خبروا جيداً المناورات والأساليب الأوروبية في المراوغة والتسويف للتهرّب من تنفيذ التزاماتهم، وإبقاء إيران وحيدة في الاتفاق من دون جني ثماره الاقتصادية التي نص عليها.. لكن ما حصل يؤكد جملة من الأمور الهامة التي يجب استخلاصها…
الأمر الأول، هو أنّ الدول الأوروبية منافقة في تعاملها مع إيران، فهي لا تريد الانسحاب من الاتفاق كما فعلت أميركا، وفي نفس الوقت لا تريد تنفيذ التعهدات التي نصّ عليها، والهدف إبقاء إيران وحيدة ملتزمة بالاتفاق في ظلّ استمرار العقوبات المشدّدة عليها والمراهنة على أن يؤدّي ذلك إلى خلق متاعب وضغوط اقتصادية للدولة الإيرانية تجبرها على القبول بالعودة إلى المفاوضات وتقديم تنازلات للولايات المتحدة والدول الغربية تمسّ بسيادة واستقلال إيران وتعيدها إلى فلك التبعية، بأن توقف برنامجها الصاروخي وتتخلى عن دعم قوى المقاومة العربية ضدّ الاحتلال الصهيوني، وان تفكّ عرى تحالفها مع سورية، وتتوقف عن دعم الشعب العربي في اليمن ضدّ العدوان السعودي الأميركي، أي بصريح العبارة تريد الدول الغربية أن ترضخ إيران للهيمنة الاستعمارية الأميركية الغربية وتعود إلى ما كانت عليه من سياسات سابقة في عهد نظام الشاه، وتتخلى عن كلّ ما أنجزته الثورة الإسلامية التحررية وتنقلب على مبادئها…
الأمر الثاني، إنّ الدول الغربية ليست مستقلة عن السياسة الأميركية بل هي تابعة لها… أوروبا لا تتمتع بالاستقلال ولا السيادة كما تدّعي، فهي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مرتبطة بالتبعية للولايات المتحدة التي تولّت إعادة بناء أوروبا في إطار ما سمّي مشروع مارشال مقابل أن تصبح أوروبا جزءاً من استراتيجية الهيمنة الاستعمارية الأميركية على العالم، عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، وفي هذا السياق أقيمت القواعد العسكرية الأميركية على الأراضي الأوروبية وأنشأ حلف الأطلسي بقيادة أميركا ليكون أداتها لإخضاع العالم، وبني الاقتصاد الغربي على أسس التبعية للاقتصاد الأميركي.. فيما هامش التحرك الغربي في السياسة الدولية يتمّ تحت سقف هذه التبعية للولايات المتحدة الأميركية، وهذا الأمر هو ما يحصل عملياً في كلّ ما له صلة بالسياسة الأميركية والإجراءات التي يتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن كان على صعيد الحرب التجارية التي يشنها على الدول العدوة والحليفة له، أو كان على صعيد شنّ الحروب الإرهابية الاستعمارية الأميركية ضدّ سورية وفنزويلا واليمن وليبيا، وقبل ذلك ضدّ العراق وأفغانستان إلخ…
ولهذا فإنّ ترامب دعا أوروبا إلى الاختيار بين العلاقة مع أميركا وبين العلاقة مع إيران، لمنعها من كسر وفكّ الحصار الذي تفرضه أميركا على إيران بوساطة العقوبات الاقتصادية، وقد خضعت أوروبا لتهديد ترامب وغلّبت مصالحها مع أميركا على مصالحها مع إيران، وبالتالي امتنعت عن تنفيذ التزاماتها التي نصّ عليها الاتفاق النووي الذي وقعت عليه وتحوّل إلى اتفاق دولي بعد مصادقة مجلس الأمن عليه…
الأمر الثالث، إنّ الدول الغربية قامت ولا تزال على انتهاج سياسات تكرّس السيطرة الاستعمارية غير المباشرة على دول العالم الثالث بعد انتهاء مرحلة الاستعمار بشكله القديم المباشر، لتحقيق هدفين، الهدف الأول منع استقلال هذه الدول وإبقائها دولاً تابعة لها من خلال حرمانها من امتلاك التكنولوجيا أو توطين التقنية التكنولوجية في أراضيها، والهدف الثاني ضمان استمرار نهب واستغلال ثروات هذه الدول من نفط ومعادن وجعلها مجرد أسواق تستهلك المنتجات الغربية بما يحقق للدول الغربية نمواً اقتصادياً مستمراً وعائدات مالية كبيرة تمكنها من تحقيق الازدهار لأنظمتها الرأسمالية من ناحية، وتوفير مستوى عال من الرفاهية لمجتمعاتها على حساب مجتمعات العالم الثالث التي تعاني من الفقر والحرمان وغياب التنمية رغم امتلاكها الثروات الهامة التي تمكنها، فيما لو وظفتها في تنمية اقتصادها، من تحقيق التقدّم والازدهار والعدالة لمجتمعاتها… من هذا المنطلق فإنّ الدول الغربية كما الولايات المتحدة حاولت منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية وتحقيق التقدّم العلمي والتطور التقني الذي يمكنها من تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتقدم والازدهار بعيداً عن التبعية للغرب، وعندما نجحت إيران في تحقيق التقدّم في مشروعها النووي وامتلاك التقنية والقدرة الذاتية على إنتاج المعرفة والتقنية عمدت الدول الغربية إلى الموافقة على التفاوض معها والإقرار بحقها في امتلاك البرنامج النووي للأغراض السلمية، لكن شرط أن يجري التزامها بالامتناع عن تخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 3.67 بالمئة، مقابل تأمين حاجتها من الوقود النووي لتشغيل مفاعل أراك من الدول الغربية… رهاناً على عامل الوقت لاختراق إيران من الداخل، عبر الاستثمارات وإقامة المشاريع الاقتصادية، وبناء شبكة من العلاقات داخل إيران تمكن الغرب من إحداث تغيير سياسي، وبالتالي إعادة ربط إيران بعجلة التبعية الاقتصادية والسياسية… غير أنّ انسحاب ترامب من الاتفاق قطع الطريق على هذه الاستراتيجية الغربية وكشف حقيقة ما تضمره الدول الغربية لإيران…
فالغرب يدرك جيداً أنّ امتلاك إيران للتقنية بقدراتها الذاتية وعلى قاعدة التحرّر من الهيمنة الاستعمارية وبناء نموذج الدولة المستقلة القوية والداعمة لقوى المقاومة والتحرر في المنطقة، يشكل خطراً على كامل مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية وعلى كيان العدو الصهيوني، ويؤدي إلى تعزيز الدول المستقلة وتمكينها من الاستفادة من الخبرات التقنية والعملية الإيرانية التي لا تمانع إيران في أن تستفيد منها هذه الدول، على عكس الدول الاستعمارية التي تريد أن تبقى التكنولوجيا حكراً عليها لاستخدامها وسيلة لإخضاع الدول ومنعها من التحرر وبناء نماذجها الاقتصادية المستقلة وتحقيق التقدم لمجتمعاتها…
من هنا لا يجب المراهنة على سياسة غربية مستقلة عن أميركا، أو تحترم استقلال دول العالم النامي، وحقها في امتلاك إنتاج التكنولوجيا والمعرفة والتقنية.. وهذا يعني أنّ الغرب لا يسلم لأيّ دولة بالحصول على الاستقلال الحقيقي وامتلاك التكنولوجيا إلا من خلال بناء قدرات ذاتية تحمي هذا الاستقلال وتردع الغرب عن شنّ الحرب ضدّها، وهو ما يحصل الآن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي نجحت في امتلاك المعرفة والتقنية بقدراتها الذاتية، وبناء القدرات العسكرية التي تمكنها من الدفاع عن استقلالها وحماية سيادتها ومنع الغرب من التدخل في خياراتها وشؤونها.. الأمر الذي ردع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجعلها تتردّد وتتراجع عن توجيه ضربة لإيران، بعد إسقاط الأخيرة طائرة التجسّس الأميركية لدى اختراقها مجالها الجوي… ما يؤكد أنّ أميركا والغرب عموماً لا يفهموا إلا لغة القوة ولا يتراجعوا ولا يرضخوا إلا للقوي…