بعد 13 عاماً على العدوان الإسرائيلي على لبنان تستمر تداعيات السقوط الإسرائيلي وانتصار المقاومة، وتستمر هذه التداعيات على أكثر من صعيد وفي أكثر من اتجاه الى الحدّ الذي مكّن السيد حسن نصرالله من إطلاق وعد جديد مزلزل قال فيه «وفقاً للمنطق والتحليل السليم أنا سأصلّي في القدس». قال هذا علماً بأنّ عمره لامس الـ 59 عاماً، والسيد كما عوّد الجميع صديقاً كان أو عدواً لا ينطق إلا بما يراه واقعياً ممكن الحصول ولا يعد إلا بما يراه قابلاً للتنفيذ وفقاً للإمكانات المتوفرة. وقد أطلق السيد وعده هذا في معرض الحديث عن انتصار المقاومة ما يعني أنّ تحرير القدس الذي يعنيه هو التحرير الذي سيكون على يد المقاومة وفي العشرات القليلة الآتية من السنين، فلماذا قال السيد ما قاله ولمَ أو هل جازف بوعده؟
إنّ المتتبع لمجريات الأمور في المنطقة وفي كلّ ما يتصل بالصراع مع العدو الإسرائيلي وحوله يدرك وبكلّ موضوعية أنّ هناك فئتين من الحقائق تشكلتا في فترة حرب وما بعد حرب 2006. حقائق لا يتعامى عنها إلا حاقد موتور رافض للحقيقة او جاهل أعمى عاجز عن رؤية الحقيقة، وكما هو معلوم ليس لرأي أيّ من الطرفين وزن.اما الفئة الأولى من الحقائق تلك فهي ما نتج مباشرة عن حرب 2006 وفيها تحطّمت الأركان الرئيسيّة للعقيدة العسكرية الإسرائيلية واختلت استراتيجيتها الهجومية اختلالاً كبيراً، حيث خرجت «إسرائيل» من الحرب وقد فقدت «الحرية في قرار الحرب»، وخسرت عنصر «الحرب على أرض الخصم». وودّعت الى الأبد نظرية «الحرب الخاطفة» وسقطت من يدها «نظرية سلاح الطيران الحاسم«.
لقد، وضعت حرب 2006 حداً نهائياً لمقولة الحرب الخاطفة التي كانت تشكل الركن الأساس في تلك العقيدة، فقبل 2006 كانت «إسرائيل» تملك الجزئيات الثلاث في مسألة قرار الحرب وتوقيتها ونطاقها، فهي مَن يبدأ الحرب وهي مَن يحدّد نطاق الحرب زماناً وميداناً وهي مَن يوقف الحرب، أما بعد 2006 فلم يعد لـ «إسرائيل» إلا الجزئية الأولى أيّ من يبدأ الحرب فتستطيع أن تطلق هي الطلقة الأولى لكن النطاق الزمني والمكاني وتاريخ انتهاء الحرب باتت أموراً خارج يدها كلياً. وهذا ما شكل ولا يزال من أهمّ الخسائر الاستراتيجية للعدو التي قيّدت حريته في الذهاب للحرب، لأنه يخشى من مدتها وباتت للمرة الأولى في حياتها مردوعه بسلاح المقاومة.
كما أسقطت الحرب الركن الثاني في العقيدة العسكرية الإسرائيلية المتمثل بمقولة «الحرب على أرض الخصم». وهنا نذكر أنه قبل حرب 2006 كانت «إسرائيل» تخوض الحروب على الجبهات وشعبها يمارس السباحة والسياحة في المنتجعات والمرابع الترفيهية مطمئناً، لكنها مع حرب 2006 وبعدها تغيرت الصورة وباتت «إسرائيل» تخشى من أمرين يرعبانها. الأول: وضع «إسرائيل» كلها تحت النار وتهديد ما أسمي الجبهة الداخلية بنار شل وتدمير وفشل «إسرائيل» في تأمين الحماية والمناعة لشعبها كما فشلها في تطبيق مقولة «شعب يعمل تحت النار». أما الثاني فهو ما عبر عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأن «على المقاومين ان ينتظروا أمراً بالقتال في الجليل شمال فلسطين المحتلة». وهو عمل إذا حصل فسيكون الأول من نوعه منذ العام 1948 وسيتكامل مع الأمر الأول ويُسقط نهائياً مقولة «الحرب على أرض الخصم» لتتقدّم مقولة الحرب المفتوحة في الزمان والمكان وعلى جانبي الحدود.
أما العنصر الثالث الذي أسقطته حرب الـ 33 يوماً فكان سلاح الطيران الذي طالما فاخرت به «إسرائيل» واطمأنت اليه، وجعلته «السلاح الحاسم». فقبل 2006 كانت «إسرائيل» تحسم نتائج الحرب من الساعات أو الأيام الأولى بالعمل التدميري الواسع الذي ينفذه طيرانها الذي يمتلك تفوقاً كبيراً وسيطرة جوية تامة، اما في الـ 2006 فقد فشلت «إسرائيل» في تحقيق النتائج المتوخاة من طيرانها رغم أنها ارتكبت جرائم حرب بهذا الطيران وابتدعت «نظرية الضاحية» ونفذتها بتدمير مدينة بكاملها… فالطيران الإسرائيلي فشل في حسم الحرب وفشل في إسكات مصادر نيران المقاومة وفشل في ثني المقاومة عن العمل المؤثر في الميدان. وفي المقابل نجحت المقاومة في إجبار «إسرائيل» على القتال بنمط الجيل الرابع وأرغمتها على معارك الالتحام وووضعت الجندي الإسرائيلي أمام نفق مرعب لا يقوى على دخوله ووضعت بذلك حداً لمقولة «الانتقال الآمن في الميدان» أو «السيطرة والسيادة الإسرائيلية في الميدان». فكل هذا بات من الماضي وباتت المظلة الجوية عاجزة عن رد طلقة نار يرميها مقاوم من مسافة أمتار قليلة.
أما الأخطر من كل ما تقدّم فقد كان سقوط «الهيبة العسكرية الإسرائيلية» وثقة الصهاينة بجيشهم وسقوط مقولة الجيش الذي لا يُقهر، فحرب تموز 2006 فضحت هذا الجيش وسلّطت الأضواء على عناصر الضعف فيه ومكّنت السيد حسن نصر الله من وصف الكيان الإسرائيلي بـ «بيت العنكبوت» الذي هو أوهن البيوت بالوصف القرآني.
أما بعد الحرب وخاصة في السنوات العشر الأخيرة أي منذ بدء الحريق العربي وما جرى من قتال على أرض سورية وما تبعها من متغيرات دولية وتطورات عسكرية في جانب المقاومة ومحورها وعلى صعيد قدراتها وخبراتها فقد باتت «إسرائيل» في مواجهة مشهد عملاني واستراتيجي جديد لم تعرفه منذ اغتصابها لفلسطين، مشهد يقوم على ما يلي:
أولاً: إن الحرب المستقبلية ستكون حرباً إقليمية شاملة لكامل المنطقة مع تعدّد الجبهات ولن تستطيع «إسرائيل» أن تستفرد بأي من مكوّنات محور المقاومة وسقط عنصر آخر في عقيدتها العسكرية يتمثل بنظرية «القتال على جبهة واحدة وتجميد الجبهات الأخرى».
ثانياً: وهن البنية الإسرائيلية أمام فعالية النار التدميرية للمقاومة. وهو ما عرضه السيد حسن نصر الله في حديثه الأخير وحدد فيه البقعة الرئيسة التي تحتوي على الأساسيات في بنك اهداف المقاومة وكلها تقع في منطقة لا تتجاوز 1200 كل م2 وهي ما يمكن تسميته بـ «إسرائيل الحيوية» أو «قلب إسرائيل»، حيث تتجمّع كل مراكز القيادة والإدارة والإنتاج والعمل في السياسة والأمن والاقتصاد والمال حتى باتت تسميتها بأنها منطقة قلب «إسرائيل» هي تسمية موضوعية جداً، فإذا شلّت أو توقفت عن العمل ماتت «إسرائيل» وهو أمر باتت المقاومة قادرة على إنجازه لما تملك من أسلحة نار تدميرية فاعلة.
ثالثاً: فعالية القدرات الهجومية للقوات البرية التي باتت المقاومة تملكها ما يخيف «إسرائيل». وهو ما أكد عليه السيد حسن نصر الله بوضوح مشدداً على حجم هذه القوى والخبرات العالية التي اكتسبتها في الحرب الدفاعية التي خاضتها في سورية ما مكّنها من بناء عنصر قتالي اقتحامي فاعل في البر قادر على الهجوم والاقتحام في أصعب الظروف.
نقول هذا مع أننا لا نسقط من الحساب احتمال التدخل الغربي بقيادة أميركية، وامتلاك «إسرائيل» للسلاح النووي، لكننا نعرف أيضاً ان الغرب يقدم السلاح والذخائر ولا يقدم الدماء لحماية «إسرائيل» في حرب ستكون مفتوحة وستكون فيها مصالحه في خطر، أما عن السلاح النووي فإنه في الأصل سلاح ردع لا يُستعمل، وإذا استعملته «إسرائيل» فسيكون الدليل القاطع على نهايتها وأكتفي بهذه الإشارة دون تفصيل أكثر.
لكل ذلك أقول إن «إسرائيل» انكشفت الآن وظهرت الثغرات في بنيتها، ولهذا لا نتوقع أن تبادر هي في المدى المنظور الى حرب تهدد بها دائماً، وتبقى الحرب مستبعدة أيضاً لأن المقاومة لن تبدأ بها ولن تبادر اليها، اما إذا ارتكبت «إسرائيل» الخطأ المميت وذهبت الى الحرب… واعتقد أنها سترتكب هذا الخطأ يوماً… فإنها ستكون الحرب التي تفتح طريق السيد حسن نصر الله الى القدس ليصلي فيها، كما أعلن.