في خطاب عودته إلى لبنان في 2 آذار من العام 1947 قال المعلم أنطون سعادة ’’إن إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم. كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إن الخطر اليهودي على فلسطين هو على سوريا كلها. هو خطر على جميع هذه الكيانات‘‘...
كلامه هذا يحمل نوعا من الإستقراء للواقع الذي نحن فيه. ففي مقاربات المحافظين الجدد ندرك موقع سوريا الطبيعية وبلاد الشام والهلال الخصيب في حسابات الغرب الأميركي والأوروبي، وقد عبَّر عن هذه المقاربات بعد الإحتلال الأميركي للعراق مُنظِّر المحافظين الجدد ريتشارد بيرل في كتاب له عندما اعتبر أن من يضع يده على بغداد يضع يده على بلاد الهلال الخصيب. ولذلك يمكن إعادة بنائه في ضوء معطياته البدائية الأولى: العشيرة والعائلة والجهوية والأتنية. ويمكن تبعا لذلك تقسيم سوريا والعراق ولبنان واستثنى الأردن ودولة الإحتلال الإسرائيلي.
هذا التوجه التقسيمي الأميركي لبلاد الشام هدفه وفقا للمحافظين الجدد قيام دولة اسرائيل القوية التي حسب اعتقادهم هي المدخل لعودة المسيح. وما نشهده حاليا من حرب كونية على سوريا هدفها ضرب موقع سوريا وموقفها اللذين يستندان إلى فلسفة أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد والتي تقوم على الربط بين ما هو وطني وما هو قومي وعلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية محورية لبلاد الشام والعرب جميعا.
الحرب الكونية على سوريا هدفها تمزيق النسيج الإجتماعي للمنطقة وتهيئة الأجواء لصفقة القرن. والملاحظ أن دول الهلال الخصيب لم تشارك في مؤتمر البحرين. ولذا لن تمر هذه الصيغة خصوصا وأن هذه الحرب الكونية فشلت ومعها حرب التكفيريين ومشاريعهم التفتيتية لوحدة الأمة.
أنطون سعادة قرأ مبكرا ما يريده الغرب الأميركي والأوروبي لبلاد الشام فكان هاجسه بناء المواطن القومي ووحدة سوريا الطبيعية ورفض وجود دولة الكيان الإسرائيلي ومواجهة الحالة الطوائفية والمذهبية التي غرضها تمزيق وحدة الأمة والإرتهان إلى الخارج.
من المهم في وضعنا الحالي الإستفادة من البناء الفكري لأنطون سعادة. وهو بناء شدّد على وحدة الأمة وعلى فصل الدين عن الدولة و’’المتحد الإجتماعي‘‘ والإقنصاد التعاوني والعقلانية والحرية القومية والمناقبية والربط بين النظرية والممارسة وكذلك الربط بين العدو الداخلي المتمثل بالتناحر الطوائفي والتجزئة القومية وبين العدو الخارجي المتمثل بالإستعمار والصهيونية. إذ ربط بين القوة وعملية الصراع في القضية الفلسطينية وفي مواجهة دولة اسرائيل.
لقد قرأ جيدا دور أصحاب رؤوس الأموال والمصارف فدعا إلى اشتراكية معتدلة واقتصاد تعاوني وإلى كون العلاقات الدولية ترسو على صراع قومي على المصالح والموارد والنفوذ والمواقع الإستراتيجية.
أنطون سعادة مفكر وفيلسوف إذ اعتبر أن امتلاك الفكر هو ذاته قوة. ومن هنا نوه بدور الإعلام والنخب في عملية التنوير الفكري. وللأمانة هنا أود أن أعترف أن الذي دفعني لقراءة كتب أنطون سعادة هو الإمام السيد موسى الصدر. وقد كنت مع مجموعة من اليسار في الجامعة اللبنانية قد استمالنا خطابه الذي حرّك الفقراء والمحرومين في كل الطوائف بلغة بسيطة بعيدة عن تعقيدات برامج اليسار آنذاك. فلقد كلفني الإمام في العام 1974 أن أذهب إلى بعلبك وألتقي بزعيمي عشيرتي جعفر وشمص موفدا منه حاملا إليهما رسالتين على أن يُعرفني الإثنان على أبناء العشيرة لبناء تنظيم حركة المحرومين. لمس مني الإمام ترددا فقال لي أود أن تقرأ عند أنطون سعادة نظرية ’’المدرحية‘‘ وفكرة ’’المتحد الإجتماعي‘‘. وفسّر لي الأمر بأن التغيير في لبنان غير ممكن خارج فكرة ’’المتحد الإجتماعي‘‘. فأنا أريد أن تكون العشيرة والعائلة ومتوسطي الحال والفقراء والعمال والفلاحين والمغتربين متحدا اجتماعيا لأنهم جميعا متضررين من هذا النظام الطوائفي. وقال لي إني ’’أستلهم أنطون سعادة في مقاربته للتغيير‘‘.
وبالفعل قرأت أنطون سعادة وأسقطُّ كل الأفكار الخاطئة التي كانت تروّج عنه من اليسار واليمين على السواء. بل تأثرت به وباعتزازه. بأن سوريا الطبيعية أمة الشعب الذي أعطى الحضارة في التاريخ. ’’وهي أمة أرادها سعادة تعاكس مصالح المستعمر منتسبة لذاتها لا للغرب الأميركي والأوروبي‘‘. ولأنه شاء أن تكون مبادئه ترتبط بالواقع والمتغيرات. فهي مرنة وتصلح تحديدا لمعالجة ما نحن فيه.
الحقيقة أني أنتسب لـ’’اللقاء التشاوري للنخب‘‘ في المحافظات. وهو لقاء فكري عابر للطوائف والمناطق. واستفدنا كثيرا من هذه المبادئ كما من فكر الإمام موسى الصدر والمطران غريغوار حداد. فالبناء الفكري عند أنطون سعادة اعتمدنا أساسياته في بعده اللبناني. وهذه الأساسيات هي:
- تعزيز فكرة الدولة المدنية الجامعة والقادرة والعادلة.
- المواطنة على أساس أننا مواطنون في وطن لا مواطنين في طوائف.
- رفض الفتنة المذهبية وإدانتها واعتبارها ’’حالة اسرائيلية‘‘.
- سحب سياسات التحدي في العلاقات بين الطوائف وحل أي خلاف بالحوار وبتغليب المشترك.
- مواجهة الإنقسام السياسي والطوائفي الحالي بالتنازلات المتبادلة بين الفرقاء اللبنانيين.
- تفعيل مؤسسات الدولة وتحريرها من الوصايات السياسية والطوائفية.
- اسرائيل عدو مشترك لكل اللبنانيين. وتغليب التعارضات المحلية يصرف الصراع معها عن مساره الصحيح. أما الجيش فهو ضمانة وحدة البلد والسيادة. كما المقاومة ضرورة لتحرير الأرض والحؤول دون الإعتداءات والأطماع الإسرائيلية.
- تمثيل المرأة على مستوى القرار في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
- ضرورة اعتماد الدولة رؤية لدور الشباب ومستقبلهم وتوفير فرص العمل لهم ومشاركتهم في القرار. وهذه الناحية احتلت حيزا مهما عند أنطون سعادة. فالشباب هم أداة التغيير وهم الأقرب إلى معرفة الواقع ومعرفة الفعل فيه. ذلك أن المعرفة قوة تولد وعي الجماعة. وعيا حقيقيا. ولذلك بدأ سعادة نشاطه التنظيمي الأول في الجامعة الأميركية وبين طلابها وأساتذتها.
- تعزيز دور الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية وحضورها في الأطراف والأرياف.
- إبعاد الثروة النفطية عن المحاصصات الطوائفية والمذهبية والمحسوبيات السياسية وتوظيفها لخدمة مستقبل الأجيال القادمة.
- ضريبة تصاعدية لتوفير حد أدنى من العدالة الإجتماعية.
- ضمان صحي واجتماعي وضمان الشيخوخة عبر تحويل جزء من أرباح المصارف والعقارات والأملاك البحرية.
- إحياء الطبقة الوسطى ضمانة للتوازن الإجتماعي والحد من الطوائفية.
- تبني فكرة الحل السياسي للأزمة السورية بين النظام والمعارضة المعتدلة بغية تلافي تفتيت سوريا ومحيطها وبناء دولة ديمقراطية متطورة تعيد إلى المجتمع وحدته ودوره في المنطقة.
- بناء العلاقات اللبنانية السورية على قاعدة مراجعة الأخطاء السابقة من اللبنانيين والسوريين على السواء وفتح القنوات الفعلية بين الشعبين اللبناني والسوري على المصالح المشتركة والإنتماء الواحد وتبني فكرة الحوار لمعالجة أي تعارضات والتمهيد لسوق مشتركة بين بلدان الهلال الخصيب..
أخيرا المعلم أنطون سعادة منارة فكرية وفكره ملك الأمة التي آمن بوحدتها. ولا يسعنا إلا أن نرى في فكره عملا نهضويا بناء واستقراء لواقع المنطقة ومستقبلها. إذ ليس من قبيل الصدفة أنه ركَّز في كتاباته ومحاضراته على مخاطر الصهيونية على الأمة وعلى كون ’’تركيا هي أقرب وأقوى وأخطر الدول التي تنظر إلينا بعين جشعة وهي ترتقب الفرص الدولية لتتمكن من عمل شيء من هذا القبيل‘‘. إنه نوع من الإستشراف لما نحن فيه.
ختاما، ’’البحث عن الحقيقة‘‘ كان أحد الاهتمامات الأساسية للمفكر السياسي والفيلسوف وعالم الإجتماع أنطون سعادة الذي اختار ما سمّـاه ’’طريق الوعي القومي للخروج من التخبط في ماهية حقيقتنا. في من نحن وما هو وجودنا وما نبغي في الحياة‘‘، الحياة التي كانت بالنسبة إليه ’’وقفة عزّ فقط‘‘.