في تشرين الاول عام 1962، كان الرئيس الاميركي جون كينيدي والحزب الديموقراطي يتحضران للانتخابات النصفية المهمة، عندما اندلعت أزمة خطيرة مع الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من كوبا، وهو ما عرف لاحقاً بأزمة الصواريخ. وفيما كان كبار الضباط يضغطون على البيت الابيض للقيام بضربة عسكرية تطال الصواريخ النووية التي نصبتها موسكو في كوبا، كان كينيدي يحاول تفادي الحرب بحلول ديبلوماسية لكسب نقاط انتخابية لمصلحة حزبه.
نجح كينيدي في إنجاز تسوية سياسية أعلن بعضها ووضع بعضها الآخر في إطار السرية المطلقة. لقد أعلن رسمياً عن سحب الصواريخ الروسية من كوبا في مقابل فك الحصار البحري الاميركي عنها، لكن ما لم يعلن هو التزام اميركي بعدم إطاحة نظام فيدل كاسترو، والبند الأهم هو سحب الصواريخ الاميركية النووية المنصوبة في تركيا والموجّهة الى روسيا، خلال ستة أشهر.
وأضاف البيت الابيض الى هذين البندين بنداً إضافياً انه إذا جرى تسريب هذين البندين بأي طريقة خلال السنوات الخمس التالية، فإنّ واشنطن تصبح بحِل من التزامها بهما. مع الاشارة الى انّ الديبلوماسية الروسية كانت منزعجة لأنّ الحل حصل عبر المخابرات الروسية.
ومناسبة استعادة هذه المحطة التاريخية هو الصراع والتشابك والتعقيدات التي تطال الازمة الاميركية - الايرانية.
وليس سرّاً أنّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب ليست لديه مآخذ جدية على الاتفاق النووي الذي عقده سلفه مع القيادة الايرانية، وانّ ما يهدف إليه هو إنجاز تفاهم جانبي مع ايران يَطال نقطتين: الاولى تتعلق بحد النفوذ الايراني خارج حدودها، والثانية تتعلق بالصواريخ الايرانية البالستية التي تطال القواعد الاميركية واسرائيل وروسيا وأجزاء واسعة من اوروبا.
ولا شك في انّ ايران، التي رفضت سابقاً ايّ نقاش في هذين البندين، أبدَت مرونة ضمنية خلال الاسابيع الماضية بسبب وطأة العقوبات، كما انّ ادارة ترامب التي كانت تشترط استجابة ايرانية غير مشروطة أصبحت اكثر ليونة بعد احتراق ورقة التهويل بالحرب بين يديها وانكشافها بأنها لا تملك خططاً بديلة لمقارعة تحديات طهران.
ومع دخول فرنسا كوسيط بَدا انّ اللحظة باتت مناسبة للانطلاق في تسوية تنزل الجميع عن الشجرة.
وبعد زيارة مستشاره لطهران باشَر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تحضيراته لزيارة إيران، ولكن بعد التحضير لها باتصالات يجريها بواشنطن وموسكو.
وبَدا انّ المسعى الفرنسي ارتكز على حلول حول البند الشائك والمتعلق بالصواريخ الايرانية، ومن الطبيعي والمنطقي ان تكون هذه الحلول خاضعة للسرية المطلقة كونها تؤذي القواعد الشعبية في حال الكشف عنها.
تحدث ترامب عن تقدّم كبير، وهو على الأرجح كان يقصد المبادرة الفرنسية، وتمنّع عن إضافة اية تفاصيل، ثم جاء كلام وزير الخارجية الايرانية ليعلن الموافقة الايرانية على الاستعداد للبحث في هذا البند ولو بلغة ديبلوماسية. لكن ما لم يكن مفهوماً هو الكشف بوضوح عن هذا البند، وبالتالي السؤال: هل هنالك في ايران مَن يرفض التسوية، ويعتقد انّ بوسع ايران الرهان على عامل الوقت لدَفع واشنطن للتراجع من دون تحقيق مكاسب وانتظار الانتخابات الاميركية؟ أو أنّ هنالك في الداخل الاميركي من يريد حرمان ترامب من اي نقاط في السياسة الخارجية لمنعه من استعمالها في حملته الانتخابية؟
وخلال الاسابيع الماضية أظهر استطلاع للرأي تفوّق 3 مرشحين من الحزب الديموقراطي على ترامب:
جو بايدن حاز 51 في المئة مقابل 42 في المئة لترامب، بيرني ساندرز حاز 50 في المئة مقابل 43 في المئة لترامب، واليزابيت وارن حازت 48 في المئة مقابل 43 في المئة لترامب. هذه النتائج قبل سنة وأربعة أشهر من الانتخابات تعتبر جيدة لترامب الذي بَدا انه ينطلق من قاعدة ثابتة وصلبة لا تتزحزح تبلغ زهاء 42 في المئة، لكنها غير كافية لضمان الفوز فهو في حاجة الى أجندات شريحة المترددين.
غرّد ترامب أنّ نسبة تأييده داخل الحزب الجمهوري بلغت 94 في المئة وهي سابقة تاريخية، لكنّ كثيرين شككوا فيها.
وأظهراستطلاع نظّمته صحيفة «الواشنطن بوست» وشبكة «اي.بي.سي نيوز» ارتفاعاً في شعبية ترامب الى اعلى مستوى منذ توليه الرئاسة بسبب الرضى عن اسلوبه الاقتصادي، فبلغت 44% مقابل 39% في نيسان الماضي.
لكنّ اللافت أنّ نسبة غير الراضين عن سياسته الخارجية بلغت 55 في المئة، وهنا مبعث القلق الذي يريد ترامب معالجته، وعلى هذه النقطة تركيز أخصامه في الداخل والخارج.
قبل ايام اعلن الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني انّ بلاده مستعدة للحوار مع واشنطن اذا ما رفعت العقوبات، وفي هذا الكلام يتجاوز مبدأ المفاوضات غير المباشرة التي كانت طهران تتمسك بها. وبالتأكيد، فإنّ هذه المواقف حصلت بموافقة المرشد السيد خامنئي.
موقف روحاني جاء بعد رحيل مبعوث الرئيس الفرنسي، ولكن قبل الكشف عن ملف الصواريخ البالستية. وهنالك من يعتقد انّ النظام الايراني يميل لإنجاز تسوية مع ترامب قبل إعادة انتخابه، لأنها الفترة الافضل لإيران شرط الا يؤثر ذلك على مكانة السلطة في ايران امام شارعها.
وترامب بدوره في حاجة ماسة الى نقاط في سياسته الخارجية لتحصين عودته وضمانها، فالملف الذي راهن عليه ودفع لأجله أثماناً كثيرة وهو «صفقة القرن» آلَ الى مصير مظلم وانقلب من نعمة الى نقمة. فاستطلاعات الرأي الاسرائيلية تلحظ تراجعاً كبيراً في أعداد مقاعد الليكود و«أزرق أبيض».
وأفضل الاقتراحات تتحدث عن حكومة وحدة وطنية بين الحزبين الكبيرين يتناوب على رئاستها غانتس أولاً، ومن ثم نتنياهو، وهو ما يقضي على صفقة القرن نهائياً.
وفيما يواجه نتنياهو جداراً فولاذياً من الجنرالات، إستذكر البعض خطاباً لرئيس «الموساد» السابق مئير داغان عام 2015، حين قال بصوت متهدج وبالغ التأثر انّ نتنياهو يجرّ إسرائيل الى القعر نحو دولة ثنائية القومية ونحو نهاية الحلم الصهيوني.
باختصار، إنّ الدولة العميقة في اسرائيل ترفض صفقة القرن وهو ما يهدد عودة نتنياهو، وبالتالي مراكمة خسائر ترامب الخارجية. قد لا يكون أمامه سوى إعادة المحاولة مع إيران.