تتزاحم الأحداث المشوبة بتوتر سياسي غير مسبوق تمارس من خلاله الضغوط المتبادلة مصحوبة بتسخين عسكري عالٍ من دون بلوغ مبلغ الفوهة، وكل ذلك بهدف تعزيز مواقع وتثبيت مكاسب للقوى المتصارعة ضمن حلبة جغرافيا المنطقة العربية الممتدة من سورية وفلسطين والعراق واليمن وصولاً إلى منطقة الخليج التي ضربتها أمواج عاتية جراء ازدحام البوارج والسفن الحربية، بدعوى الحفاظ على أمن الملاحة البحرية في ممرات ومضائق البحار التي تشكل ممراً إلزامياً لما تبلغ نسبته 40 بالمئة من نفط العالم.
ربما يسأل الباحث عن رابط الأحداث الدائرة في سورية والعراق واليمن وفلسطين أي في بلاد الشام مع ما يجري في مياه الخليج وارتفاع منسوب التوتر في تلك المنطقة، ولكي تكتمل صورة الأحداث الدائرة وفهم ما يجري وتجنباً لتقطيع مشهد الأحداث وجعله مشاهد متفرقة تشتت الفكر والتحليل، فإن المنطق السليم هو بوضع المشهد في الكادر المناسب وبالاتجاه الصحيح حتى يتسنى لنا رؤية الصورة بوضوح وقراءة اتجاه البوصلة قراءة صحيحة.
واهم من يعتقد أن لا ترابط بين ما يجري في المنطقة ووضعه في خانة الأحداث المتفرقة التي تحمل سيناريوهات مختلفة من دون ترابط فيما بينها، بيد أنه لو استعرضنا ما جرى ويجري من أحداث لوجدنا بأن العدو الإسرائيلي مدعوماً من اليمين المتصهين في أميركا وبالاستعانة بالمهام المنوطة بالغرف السوداء المنتشرة في دول عربية عدة وبتمويل خليجي فاضح، لوجدنا أن العمل جار على قدم وساق وبشكل فاضح لإعادة تشكيل المنطقة على أسس جديدة قائمة على الإخضاع بالترهيب تارة أو بالترغيب تارة أخرى ولجعل المنطقة عبارة عن دول مارقة لا علاقة لها بتاريخ أو ثقافة أو حضارة وإن امتدت لآلاف السنين لكونها شكلت جميعها العامل الأساسي والعمود الفقري في بناء الإنسان العربي وانتمائه للهوية العربية.
إن ما يجري في المنطقة هو صراع حقيقي بين قوى تريد العودة بالمنطقة إلى زمن الانتداب لمصلحة القوى الغربية، حينها لم يكن مفهوم الدولة قيد التداول وهو زمن كان يقتصر على حكم مشايخ وأمراء وُلِدوا من رحم شرط الولاء لبريطانيا، واستطراداً يعني الحفاظ على المكون الذي أوجدته بريطانيا في المنطقة عبر وعد بلفور أي إسرائيل، أما القوى المناهضة لهذا المكون البريطاني فقد تأسست على مبادئ متينة وعقيدة صلبة شكلت أسس الثورة الرافضة لأي انتداب فرنسي أو بريطاني أو الخنوع لأي إملاءات غربية معتمدة على مبدأ مقاومة كل أشكال الانتداب والهيمنة الغربية، واستطراداً مقاومة الكيان الصهيوني الذي صنعته بريطانيا بالشراكة والتواطؤ مع بعض المشايخ والأمراء الذين تمت ترقيتهم فيما بعد إلى مرتبة حكام ورؤساء وملوك عرب، وذلك بعد التأكد من ولائهم ورهن ثرواتهم لمصلحة البريطاني وفي فترة لاحقة لمصلحة الأميركي بعد أن جعلوا منهم مجرد أجراء لا حكاماً مقابل التمتع بحماية عروشهم.
القوى المناهضة انطلقت من مبادئ الثورة على المحتل للأرض العربية مستندة إلى تاريخ المنطقة العريق وتنوع الثقافة وتجذّر الحضارة فيها، متمتعة بوعي وثقة في مواجهة أصل الصراع وفهم لمكنونات المؤامرة المستمرة منذ 1916 تاريخ معاهدة سايكس وبيكو مروراً بوعد بلفور 1917 وهي مستمرة حتى يومنا.
لقد حاول الغرب ممثلاً بأميركا وبريطانيا إعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب ومشروع الشرق الأوسط الجديد لمصلحة الكيان الصهيوني، فكانت الحرب التي شنها العدو الإسرائيلي ضد المقاومة اللبنانية في شهر تموز 2006 وكانت النتيجة هزيمة جيش العدو الإسرائيلي وانتصاراً مدوياً للمقاومة وانتكاسة غير متوقعة للمشروع الأميركي.
لكن الدول والحكام والأدوات التي تواطأت لمصلحة البريطاني ولاحقاً لمصلحة الأميركي ضد القوى المناهضة للمشروع الصهيو بريطاني، استمرت في التواطؤ والخنوع لمصلحة بقاء الكيان الصهيوني واعتباره مكوناً طبيعياً من مكونات المنطقة ينتمي إليها تاريخياً وثقافياً.
معظم دول الخليج وبعض الدول العربية صارت تتباهى بإقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني مقابل تباهي زعماء هذا الكيان بإقامة أفضل العلاقات السياسية والأمنية وحتى التجارية مع بعض الدول العربية ومنها الخليجية خاصة، وذلك بهدف إقامة طوق من التعاون الأمني مصحوب بإغراءات اقتصادية الغرض منه تكبيل وإخضاع كل قوى المقاومة في المنطقة، فكان عام 2011 عام إعلان إنهاء نظم وقوى داعمة للمقاومة بدءاً من سورية العروبة مروراً بلبنان، لكن المفاجأة الكبرى كانت بصمود سورية الأسطوري جيشاً وشعباً ودولة والذي كان مدوياً بشكل أسقط كل الأقنعة عن الوجوه العربية الغادرة، كما أسقط كل المشاريع الهادفة إلى جعل دول المنطقة دولاً مارقة تابعة وخانعة.
ومع انتفاض سورية لكرامتها وهويتها العربية وصمودها لأكثر من سبع سنوات عجاف وسقوط كل المؤامرات، لم تنفع معها كل أساليب الترهيب والترغيب ومحاولات تغيير سلوكها، نستطيع القول: إن القوى المناهضة للمشروع الصهيو بريطاني والأميركي نجحت في إفشال كل محاولات إعادة ترتيب المنطقة من جديد، كما أنها نجحت في تأسيس محور المقاومة للدفاع عن أرض وهوية المنطقة العربية والالتزام بالقضية المركزية فلسطين.
ما يجري اليوم في مياه الخليج من استهداف لإيران بالعقوبات الاقتصادية إضافة إلى التهديدات الأمنية من خلال سفن وبوارج حربية وقواعد عسكرية متمركزة في دول الخليج، ما هو إلا الحلقة الأخيرة من محاولات أميركية إسرائيلية خليجية يائسة لإخضاع إيران والتسليم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال صفقة القرن التي من شأنها لو نفذت لأذابت معها القضية الفلسطينية وذهبت بحقوق الفلسطينيين إلى غياهب الجب وثبتت مبدأ احتلال الأرض العربية في الجولان وفلسطين.
لقد نجح محور المقاومة في الصمود بوجه ما يرسم للمنطقة رغم تنفيذ وعد بلفور بإقامة الكيان الصهيوني، لكن تماسك محور المقاومة وقوته بقيادة سورية ودعم إيران ومشاركة حزب اللـه اللبناني، جعل من مولود بلفور مرعوباً مهدداً بالزوال ومطوقاً بطوق من الحديد والنار، ينطلق من إيران وصولاً إلى غزة.
إن ما حدث مؤخراً في مياه الخليج واحتجاز الباخرة البريطانية رداً من إيران على احتجاز باخرة إيرانية في مضيق جبل طارق، أثبت للعالم بأن ما يجري في المنطقة هو عبارة عن حرب صامتة ورسائل مجهولة لا يعلم محتواها ومقاصدها وحدودها إلا أصحاب الشأن ممن يمتلكون النفوذ والقوة ضمن القوى المتصارعة، لكن المؤكد بأنها رسائل لن تؤدي إلى حرب عسكرية مباشرة.
وحسب ما ظهر حتى الآن عجز أميركي بريطاني، ضعف أوروبي ملحوظ، هلع إسرائيلي، خوف خليجي تمثل بانسحاب الإمارات من حرب اليمن، وبحث سعودي عن مخرج لائق يحفظ ماء الوجه من خلال القبول بالمبادرة الأممية أو الاعتراف بالهزيمة المدوية في حرب اليمن مقابل تسيّد إيران للمشهدين السياسي والعسكري وبأنها صاحبة اليد الطولى في منطقة الخليج، ويبدو أنها ستكون صاحبة الكعب الأعلى في تلك منطقة لعقود قادمة باعتراف وإقرار من القوى الكبرى.