شهدت مناقشاتُ مجلس النواب للموازنة العامة للدولة في الأيام الماضية، ظاهرة لافتة تستدعي النقاش الهادئ بعيداً عن لعبة تسجيل المواقف من جهة، وعن الإستقواء برفع الصوت والصراخ من جهة مقابلة، والظاهرة هي أنّ كتلاً نيابية مشارِكة في الحكومة صوّتت ضد الموازنة التي ناقشتها وشاركت في إعداد موادها والتصويت عليها في الحكومة، ثم قرّرت التصويت ضد الموازنة في مجلس النواب، معلّلةً ذلك بإعتراضات على بنود الموازنة والسياسة العامة التي اعتمدتها، وما وصفته بغياب الإجراءات الإصلاحية الجذرية وعدم الأخذ بمقترحاتها التي تقدّمت بها.
والكتلة الأبرز هنا هي كتلة «القوات اللبنانية»، بإعتبار أنّ تصويت نواب كتلة «الوفاء للمقاومة» كان للمرة الأولى مع الموازنة، بعد مرات سابقة إمتنع خلالها «حزب الله» عن التصويت عندما كان مشارِكاً في الحكومة، وصوّت ضد الموازنة عندما لم يكن مشارِكاً، أما نواب «اللقاء التشاوري» في مجلس النواب، فقد راوح تصويتهم بين تأييد ومعارضة ما أضاع فرصة التحدث عنهم ككتلة موحّدة.
الأكيد أنه من الزاوية الدستورية للنائب حق مطلق بالتصويت دون قيد على أيّ مشروع أو بند أو مادة في مشروع، في الهيئة العامة، بمعزل عن مواقفه السابقة من الموضوع المطروح على التصويت، وبمعزل عن تصويت سابق له في اللجان، بإعتبار هذه الحرية هي التي تمنح الحياة الديمقراطية معنى التأثر بالنقاشات والآراء وتبادلها، ومعها تبدل القناعات أو التحالفات أو التفاهمات السياسية والنيابية، ولكن هذا الصحيح في التفاصيل يحتاج الى التدقيق عندما يصير بالمجمل، أي عندما لا يعكس مواقف النائب الفرد وقناعاته الشخصية التي تبدلت في المناقشات النيابية أو مواقف الكتل النيابية مع التفاهمات والتحالفات التي تنشأ عادة حول التصويت على مشاريع قوانين في البرلمانات الديمقراطية، فما نحن أمامه هو إلتزام نواب حزبيين بقرار حزبي، يقوم على أنّ كتلة مشاركة في الحكومة بقرار حزبي يمكن تفهّم تصويتها ضد الموازنة بقرار حزبي.
في سوابق مشابهة، قامت «القوات اللبنانية» و»حزب الله» المشاركان في الحكومة، بالإمتناع عن التصويت على موازنة العام 2017، والإمتناع يعبّر عن عدم رضا على الموازنة بذاتها، لكن عن إحترام لمبدأ المشاركة في الحكومة، وفي موازنة 2009 تولّت القوات عبر وزيرها الدكتور إبراهيم نجار الدفاع عن الموازنة التي أقرّتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، والموازنة لم تصل إلى الهيئة العامة لمجلس النواب لنتبيّن طبيعة التصويت القواتي عليها، وموقف القوات هنا كان يعبّر إذاً عن رضا تفصيلي عن أرقام الموازنة وتاييد سياسي للحكومة.
من حق «القوات اللبنانية» أن يكون لها موقف متمايز داخل الحكومة وخارجها، في مسائل كثيرة، تكون موضع خلاف مع مكوّنات الغالبية الحكومية، لكن السؤال هو عن الموازنة أولاً، التي تشكل صكاً تاسيسياً سنوياً في عمل الحكومات والتفاهمات السياسية التي تتشكل على أساسها، وهي تحتل منزلة تأتي مباشرة بعد البيان الوزراي في تحديد ماهية التحالف الذي يجمع مكوّنات الحكومة، وربما برأي البعض يتقدم على البيان الوزاري بإعتبار الموازنة هي الترجمة الملموسة لسياسات تحتمل التأويل بعبارات حمّالة أوجه في البيان الوزاري، والسؤال هو ثانياً، عن توصيف البقاء في الحكومة لكتلة معارضة للموازنة تصل حدّ التصويت ضدها في مجلس النواب؟
في حكومات الوحدة الوطنية من المفهوم أن يكون السعي للتواجد على مقاعد الحكومة مطلباً للأطراف السياسية كعلامة إعتراف بحجمها ووزنها، أو رغبة بمشاركتها في مناقشة ورسم السياسات العامة للدولة، لكنّ الحكومة غير مجلس النواب، بحيث إنّ ثمّة حدوداً دنيا للتفاهم لا يمكن تقبّل تخطيها في الحكومة الواحدة، فهل يمكن أن تكون حدود التفاهم المطلوب تطال شيئاً آخر إذا كان مقبولاً الإختلاف على الموازنة إلى حدّ التصويت ضدها في المجلس النيابي؟
من الصعب أن نجد شيئاً يمكن إعتباره الحدّ الأدنى للتفاهم، بعد التصويت العلني نيابياً ضد الموازنة، والقرار بالتصويت هو إعلان خروج سياسي من الحكومة إلى المعارضة، ورغم أنّ هذا أمر غير مألوف في الديمقراطية التوافقية، يصير السؤال الأقل إحراجاً لسائر المشاركين وللقوات معاً، هل تضع القوات خطاً فاصلاً بين كونها جزءاً من الإئتلاف الحكومي، وترتضي التواجد للمشاركة في القرارات السياسية فقط؟
الجواب سيكون في بحث التعيينات، لأنّ القوات التي ترفض الأصوات التي تطالبها بالإستقالة من الحكومة ربما تكون معنيّةً بالحفاظ على وجودها السياسي، إذا أثبتت أنها صوّتت من منطلق الخروج من «المحاصصة إلى الإصلاح»، وكان هذا مضمون تصويتها حتى لو إختلفنا معها في الرأي، لأنها تثبت عندها أنها لا تسعى لمشاركة سلطوية ، مضمونها البحث عن حصص عندما تطرح التعيينات للبحث .