لم تهنأ بريطانيا بعد من تداعيات الاستفتاء الذي حصل منذ قرابة ثلاث سنوات واظهر رغبة البريطانيين في الخروج من الاتحاد الاوروبي في ما بات يعرف بــBrexit. فمنذ نتيجة هذا الاستفتاء، والسياسيون في بريطانيا يقفون امام طريق مسدود لتنفيذ هذا الخروج، انما دون جدوى، وقد وقعت تريزا ماي ضحية جديدة للــBrexit اذ حلّ محلها "المجنون" بوريس جونسون الذي كان هو نفسه وزيراً للخارجيّة في حكومتها قبل الاستقالة منذ حوالي سنة بسبب عدم رضاه عن سياسة ماي لمسار الخروج من الاتحاد.
وليس غريبًا ان يعمد الكثيرون الى مقارنة جونسون بالرئيس الاميركي دونالد ترامب بسبب التشابه النسبي في الشكل الخارجي، ولكن الاهم بسبب التصريحات الناريّة والقاسيّة في كثير من الاحيان التي تصدر عنهما، علماً ان ترامب كان ايّد وصول جونسون الى رئاسة الحكومة البريطانية قبل ايام قليلة. الثابت في مسار رئيس الوزراء البريطاني الجديد انه متحفّز ومصرّ على ابعاد بلاده عن الاتحاد الاوروبي مهما كان الثمن، وهو حدّد مهلة تشرين الاول المقبل لتحقيق هذا الهدف الذي قضى على عدد من السياسيين قبله، والجميع يترقّب ما اذا كان سينضم الى قافلة "الشهداء" في هذا المجال ام انّه سيتمكن من الوصول الى هذا الانجاز. وبين اليوم وتشرين الاول، يتابع الكثيرون من الاوروبيين وفي العالم بقلق حصيلة المواقف التي سيتخذها، فيما تقف بريطانيا على عتبة انقسام كبير بفعل "الثورة" التي احدثها رئيس حكومتها الجديد بعد ساعات فقط على تعيينه، وهو ما تجسّد من خلال رحيل اكثر من نصف اعضاء الحكومة السابقة (اما عبر الاستقالة رفضاً لمواقف جونسون، واما عبر الاقالة بسبب السياسة المناهضة له)، ناهيك عن سابقة اثارت حفيظة عدد كبير من البريطانيين بعد تعيين جونسون شقيقه الاصغر جو وزيراً في الحكومة.
لا شكّ ان التغييرات ستكون كبيرة في السياسة الداخلية البريطانية، ولكنها ستترك مفعولها بشكل واضح على السياسة الخارجية، ومن المتوقع الا يتقبّل الاوروبيون الكثير من مواقف جونسون ما قد يتسبب ببرودة في العلاقة بين القارة العجوز واحدى اكثر الدول تأثيراً فيها، ويرى البعض ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي لن يقتصر على الامور الماليّة والاقتصاديّة، وان رئيس الوزراء الجديد قد يعمد الى "سحب" بريطانيا من محيطها الاوروبي عبر التميّز بقراراته عن الدول الباقية وكسره قرارات يتم اتخاذها اوروبياً في مواجهة احداث عالميّة. رهان جونسون سيكون حتماً في بادىء الامر على ترامب لدعمه والترويج له في المحافل الدولية، ولكن في المقابل قد لا تتطور هذه العلاقة، وقد يتحول هذا الرهان الى قضيّة خاسرة نظراً الى حدة طباع الرجلين من جهة، والى اهتمام ترامب بأمر وحيد فقط هو المصلحة الماليّة والاقتصاديّة والتي جعلته يتخلّى عن الكثير من الاصدقاء والمؤيّدين له خلال فترة قصيرة، فما الذي يمنع من انضمام المسؤول البريطاني الى هذه اللائحة في المستقبل القريب؟.
لا يحتاج الامر الى شخصين لتأكيد ان بريطانيا تمرّ في مرحلة حرجة من تاريخها السياسي، وان البصمات التي سيتركها جونسون ليست هي التي تحتاج اليها حالياً، فالمتوقع ان تزيد سياسته من الشرخ الحاصل بين البريطانيين انفسهم، وبينهم والاوروبيين من جهة ثانية، وهي خطوة من شأنها اضعاف بريطانيا واوروبا على حدّ سواء، ولعلّ الاختبار الجدّي الاول الذي سيواجهه جونسون هو طريقة التعاطي مع طهران في موضوع السفن، وما اذا سينجح فعلاً في حشد تأييد اوروبي-دولي لإنشاء قوّة بحريّة عسكريّة تتولى حماية السفن في الخليج، وانعكاس هذا الامر -فيما لو نجح- على شعبيّته بعد ان يعود البريطانيون الى القلق على مصير اولادهم الذين يتولون مهام عسكريّة خارج البلاد، وهو امرٌ لم يستطع ترامب نفسه ان يتحمله.