خلال أقلّ من شهر واحد، ارتبط اسم وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب بحادثين منفصلين مترابطين انقسمت حولهما الحكومة، بدءاً من الحادث الدموي الذي حصل على هامش زيارة وزير الخارجية جبران باسيل إلى الجبل، وأدّى إلى مقتل اثنين من مرافقيه وإصابة ثالث، وصولاً إلى الإشكال الذي حصل أمام منزله مع أحد مناصري "الحزب التقدمي الاشتراكي" قبل يومين.
وإذا كان الحادثان أدّيا إلى توسيع الفجوة الواسعة أصلاً بين كلّ من "الحزب الديمقراطي اللبناني" بقيادة النائب طلال أرسلان و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بقيادة النائب السابق وليد جنبلاط، فإنّ المفارقة المثيرة للانتباه تكمن في أنّ الغريب نفسه عُيّن وزيراً في الحكومة بموجب "تسوية" لحلّ العقدة الدرزية التي نشبت بين أرسلان وجنبلاط، والتي دخل رئيس الجمهورية ميشال عون على خط حلّها يومها.
فكيف تحوّل الغريب من وزير "تسوية"، ولو افتراضياً، إلى "لغم" لا يسهم بتعميق الشرخ الدرزي-الدرزي إلى أقصى الحدود فحسب، بدل أن يكون نقطة تقاطع بين الإثنين، بل يهدّد بتفجير الحكومة عن بكرة أبيها، بشكلٍ أو بآخر؟!.
هوية واضحة...
صحيحٌ أنّ الوزير صالح الغريب أتى وزيراً بموجب "تسوية" على الطريقة اللبنانية، لحلّ العقدة بين جنبلاط وأرسلان، في ضوء إصرار الأول على حقه بالحصة الدرزية كاملة في الحكومة، احتراماً لنتائج الانتخابات، وإصرار الثاني، مدعوماً من حلفائه، وعلى رأسهم "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، على وجوب تمثيله في الحكومة، احتراماً للتنوّع في الطائفة، شأنها شأن الطوائف الأخرى.
إلا أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الوزير الغريب هو "رماديّ" مثلاً، باعتبار أنّ هويته السياسية واضحة ومعروفة للقاصي والداني، وهو ما لم يكن خافياً على أحد، علماً أنّ أرسلان هو من طرح اسمه ضمن خمسة أسماء قدّمها لرئيس الجمهورية ميشال عون خلال مرحلة مفاوضات تأليف الحكومة، ضمن ما اصطلح على تسميتها بـ"المبادرة الرئاسية" يومها، وبالتالي فهو ليس من نوع الوزير "الوسطي" الذي لا لون ولا طعم له، أو يقف على "الحياد" مثلاً.
ولعلّ خير دليلٍ على ذلك أنّ "الحزب التقدمي الاشتراكي" لم يُخفِ منذ اليوم الأول "امتعاضه" من تسمية الغريب، وتحديداً من تسليمه حقيبة الدولة لشؤون النازحين، وثمّة تصريحات واضحة لجنبلاط في هذا السياق، غمز فيها من قناة منح مثل هذه الحقيبة لممثل حزبٍ موالٍ للنظام السوري، في إشارة إلى "الحزب الديمقراطي"، في وقتٍ لا تزال قضية النازحين تثير حساسيّة فائقة بين الموالين والمعارضين للنظام، على وقع الحملات التي يتمّ تنظيمها بين الفينة والأخرى لعودة السوريين إلى بلادهم، ما يرفضه "الاشتراكيون" بشدة، معتبرين أنّه بمثابة قتلٍ للاجئين المعارضين، من خلال وضعهم تحت رحمة النظام.
أبعد من الغريب!
عموماً، حتى لو كان الوزير صالح الغريب ممثلاً لحزب على حساب آخر، على رغم اعتباره وزير "تسوية"، فإنّ أحداً لم يكن يتوقّع عند تشكيل الحكومة أن يكون مصدراً لإشكالاتٍ كالتي شهدتها منطقة الجبل أخيراً، خصوصاً أنّ "تحفظات" جنبلاط المُعلَنة إزاءه لم تخرج يوماً عن الحدود المرسومة، قبل أن تنفجر على خلفية زيارة الوزير باسيل، وهو ما بدا للوهلة الأولى مرتبطاً أصلاً بخلاف "الاشتراكي" مع وزير الخارجية، بمعزلٍ عن أيّ اعتبارات أو حساباتٍ أخرى.
ولا يتردّد "الاشتراكيون" نفسهم بتأكيد هذا الأمر، معتبرين أنّ الحديث عن "مشكلة شخصية" مع الوزير الغريب لا يستقيم، باعتبار أنّ الأخير لا يشكّل أصلاً أيّ خطر جدّي بالمعنى السياسي على خصومه، بدليل أنّ جنبلاط الذي يعتبر أنّه تعرّض لـ"خديعة" عند حلّ "العقدة الدرزية"، عندما طُلب منه تسمية خمسة أسماء ليختار رئيس الجمهورية وزيراً يتقاطع بينه وبين "الديمقراطي"، لم يعلن أيّ "تمرّد"، وقَبِل بالأمر الواقع، حتى لا يكون سبباً لمشكلةٍ إضافيّة من شأنها قطع الطريق على تشكيل الحكومة، التي كانت تواجه أصلاً ما يكفي من مشاكل ومعوقات.
إلا أنّ ما يحصل اليوم، وفقاً لرواية "الاشتراكيين"، هو أبعد بكثير من شخص الغريب، وحتى من انتمائه السياسي، بل يرتبط أولاً وأخيراً بنوايا واضحة لاستهداف جنبلاط، وهو ما لم يعد خافياً على أحد، ولم يعد ينفع معه النفي، خصوصاً في ضوء المواقف الأخيرة للأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله، والتي ساند فيها جهاراً وبوضوح مواقف أرسلان والغريب في وجه جنبلاط، ما أوحى لكثيرين وكأنّه وجد في ما يحصل فرصة لـ"الانتقام" من "البيك"، عطفاً على "القطيعة" المستمرّة بين الجانبين، منذ قرار وزير الصناعة وائل أبو فاعور المتعلق بمعمل عين دارة، والذي اعتبره الحزب "إهانة" في مكانٍ ما، خصوصاً أنّه أتى لينقض قراراً سابقاً لوزير "حزب الله" حسين الحاج حسن.
وتصطدم رواية "الاشتراكي" هذه برواية أخرى يرويها المحسوبون على الحزب "الديمقراطي" ممّن يستغربون إصرار جنبلاط الدائم على "ادّعاء المظلومية"، في حين أنّ ما حصل في الجبل واضح وضوح الشمس، وأن الوزير الغريب هو من تعرّض لمحاولة اغتيال من خلال اعتداءٍ مسلّحٍ على موكبه، أمام مرأى ومسمع الجميع. ومن هنا، يتساءل هؤلاء عن سبب رفض جنبلاط إحالة ما حصل على المجلس العدلي لإنهاء كلّ المشكل، الذي يرى فيه "مؤامرة"، مع أنّ الأمر لا يستحقّ كلّ هذا العناء، علماً أنّ جنبلاط نفسه كان دفع في السابق لإحالة العديد من الجرائم، التي تقلّ مستوى عمّا حصل في قبرشمون، إلى "العدلي" من دون أن يلقى أيّ معارضة من الحلفاء أو الخصوم.
الكلّ منفتح... ولكن!
ينفي "الاشتراكيون" أن يكون الوزير صالح الغريب يشكّل أيّ استفزاز بالنسبة إليهم، بدليل عدم حصول أيّ مشاكل تُذكَر بين الجانبين، قبل حادثة الجبل الأخيرة، والتي لم تكن لتحصل أصلاً لولا إصرار الوزير باسيل على الزيارة، من دون أن يمهّد لها كما هو مفترض.
وينفي "الديمقراطيون" في المقابل أن يكون هناك أيّ أمر عمليات لاستهداف جنبلاط، معتبرين أنّ كلّ ما حصل في الأيام الماضية، يندرج في سياقٍ واضحٍ، ربطاً بوقائع حصلت على الأرض، وأنّ على المعنيّين تحمّل المسؤوليات، لا أكثر ولا أقلّ.
وبين هذا وذاك، إصرارٌ من الجانبين على تأكيد "الانفتاح" على الآخر، وانعدام عوامل "الإشكال"، إصرارٌ لا يُترجَم عملياً تسهيلاتٍ للحلّ، وانفتاحٌ يبقى محصوراً بالكلام، من دون أيّ خطوات ملموسة، في انعكاسٍ ربما لواقعٍ لبنانيّ يغرق في التناقضات...