يبدو مثيراً ما يفعله «نادي رؤساء الحكومة السابقين»، فهو يكرِّس حضوره مرجعية سنّية واقعياً. ويرى البعض أنّ هذه المرجعية ستكون موازية لرئاسة الحكومة، بل إنّها أشبه بـ»رئاسة حكومة الظلّ»، وسترفع شعار «إنقاذ» صلاحيات الرئيس سعد الحريري... سواء برضاه أو رغماً عنه! ولذلك الحريري مصاب بالإرباك: هل يحتمي بأركان هذا النادي لمواجهة الشريكين المسيحي والشيعي أم يحتمي منهم، باعتبارهم «أعداء كار» وينتظرونه «على كوع» السراي ليدخلوها؟
قبل عام تماماً، في تموز 2018، كانت عملية تأليف الحكومة قد بلغت ذروة التعثّر. أصرّ الحريري على أنّ الدستور لا يضع مهلةً لإنجاز المهمّة، لكن الشريكين المسيحي والشيعي كانا يضغطان بقوة لدفعه إلى التأليف وفق معايير لا يوافق عليها… وإلّا فليعتذر.
ومن باب الضغط، طرح البعض أن يوجّه الرئيس ميشال عون رسالة إلى المجلس النيابي تدعوه إلى سحب التكليف الذي حصل عليه الحريري، من 111 نائباً، وإعادة الاستشارات الملزمة لتسمية شخصية سنّية أخرى. وعموماً، سجَّل الحريري مآخذ ساخنة حول الكثير من السلوكيات التي أظهرها فريق رئيس الجمهورية في عملية التأليف، وقال إنّها لم تكن مألوفة في تأليف الحكومات.
آنذاك، كان قد مضى عامان على صفقة 2016. وكان الحريري قد ذاق طعم الانسجام والاختلاف مع الوزير جبران باسيل ووزراء «التكتل» خلال الحكومة الأولى. كما ذاق طعم أزمة الاستقالة في 4 تشرين الثاني 2017 وما آلت إليه. وأدرك أنّه من الصعب عليه أن يخرج من تلك الصفقة.
كان الحريري في حاجة إلى تركيب مظلة سنّية واقيةٍ تخفِّف عنه الضغوط. فجاء مَن يعرض عليه فكرة الاستعانة برؤساء الحكومة السابقين الثلاثة، علماً أنّ اثنين منهم هما من «أهل البيت» ومن بيئة «المستقبل»، وهما الرئيسان فؤاد السنيورة وتمام سلام.
يومذاك، جرى لقاء رباعي في «بيت الوسط» خرج بعده الرئيس نجيب ميقاتي ليعلن دعم الحريري ويحذّر من «نيّة واضحة للانقلاب على الطائف والتوازنات التي أرساها، ولاسيما في قضية تشكيل الحكومة ودور الرئيس المكلّف».
ومنذ ذلك الحين، بدأ «نادي رؤساء الحكومة السابقين» يتصرّف كمرجعية قائمة واقعياً. وثمة مَن يقول إنّ قوى داخلية وخارجية تشجع ذلك وتسعى إلى تحقيق تنوُّع وتوازن داخل الطائفة السنّية، ما دام الحريري عاجزاً عن الخروج من صفقة 2016 وانعكاساتها على صلاحيات رئاسة الحكومة.
ويدرك الحريري نفسه أنّه يحتاج إلى أصوات أخرى، من داخل الطائفة، أو حتى من داخل تيار «المستقبل» أو بيئته السياسية، لأنّ ذلك يمنحه هامش المناورة أمام الشريكين المسيحي والشيعي. ولذلك، هو يرتاح إلى صدور المواقف المعترضة من داخل «البيت المستقبلي»، إلى حدّ التلويح بأنّه سيستقيل من رئاسة الحكومة أو يعتكف. ولكن، هناك حدود لا يرغب في أن يتجاوزها أحد من داخل الطائفة، ولاسيما رؤساء الحكومة السابقين.
لا يخاف الحريري إطلاقاً أن تنقلب المعادلات في الوقت الحاضر وأن يفقد موقعه في رئاسة الحكومة لمصلحة ميقاتي أو السنيورة أو سلام. وهو يدرك تماماً أنّ التسوية القائمة على ثلاثة أطراف طائفية - سياسية ليست معرَّضة للسقوط طوال العهد الحالي على الأقل، لأنّ الأقوياء فيها - «حزب الله» تحديداً - لا مصلحة لهم في ذلك.
وهذا الأمر يدركه أيضاً أركان «ثلاثي» الحكومات السابقون، ولاسيما الرئيس نجيب ميقاتي الذي يعرف هو أيضاً حدود اللعبة، ويدرك أن الحريري هو ركن التسوية السنّي في المرحلة الحاضرة. وإلى أن تتبدّل المعادلات سيكون لكل حادث حديث. ويعرف الحريري موقف منافسه الطرابلسي وهو مرتاح إليه.
لكن رئيس الحكومة يحاذر أن يفقد المبادرة أكثر فأكثر في موقعه في السراي، بحيث يصبح موقف «الرؤساء السابقين»، الداعم له، عبئاً عليه. وفيما هو يتعرَّض للضغوط التي يمارسها فريق رئيس الجمهورية وحلفاؤه، يُصبح أيضاً عرضةً لضغوط يمارسها «نادي رؤساء الحكومة السابقين»، في المقابل.
وعملياً، تصعب الإجابة عن السؤال: عندما يدافع رؤساء الحكومة السابقون عن صلاحيات رئاسة الحكومة، هل يستهدفون الحريري بضغوطهم لثنِْيه عن تقديم التنازلات أم يستهدفون الشريكين المسيحي والشيعي؟
في أي حال، يخشى الحريري أن يتكوَّن انطباع لدى شريكيه في التسوية بأنه يستعين بقوى أخرى من خارجها. فالخط الأحمر لدى الحريري هو هذه التسوية.
ومن هنا حساسيته على كل ما يمكن أن يفسَّر اعتراضاً عليها. وهذا ما دفعه إلى تأجيل اللقاء بأسلافه الثلاثة أياماً عدة، بعد عودتهم من الرياض.
وثمة مَن يعتقد أنّ الحريري، وعلى رغم كل شيء، يفضّل أن «يقلِّع شوكه بيديه» وحلّ الأزمات بينه وبين فريق رئيس الجمهورية بالتراضي ومن دون تدخلات، معتبراً أنّ ذلك أفضل بكثير من «تكبير المشاكل».
وقد نجح الحريري في إقناع المعترضين، داخل الطائفة السنّية، بأنّ لا مصلحة في الخروج من تسوية 2016، وأنّ الخسائر المحتمل أن تصيب صلاحيات رئيس الحكومة أو رصيده خلال العهد الحالي، تبقى مقبولة إذا ما قورنت بالخسائر التي ستقع إذا سقطت التسوية وخرج تيار «المستقبل» من رئاسة الحكومة.
وهذا الاقتناع ينسحب أيضاً على القوى العربية الأساسية التي لا تريد زعزعة الاستقرار اللبناني القائم على توازنات 2016. ولذلك، لا ترغب أي منها في تشجيع إسقاط الحريري وحكومته في المدى المنظور.
وهكذا، على الأرجح، سيتعايش الحريري و»الإخوة- الأعداء» تحت سقف التسوية القائمة، وضمن معادلة المصلحة المشتركة وموقع الطائفة، فـ»لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».