فيما تذهب ابنة الحريري إلى الجامعة في واشنطن، يرافقها هو وكأنه طالب يستعدّ لتقديم امتحان صعب... أمام الإدارة الأميركية. في السنتين الأخيرتين، لم يعد الحريري يحبُّ هذه المواقف المحرجة. لكن للظروف أحكاماً. بالأمس، حلّ الأميركيون مشكلته، وأنقذوا البلد والحكومة وجنبلاط و14 آذار من مأزق خطِر. فكيف لا يسأل خاطرهم؟...
غداً الخميس، سيلتقي الحريري وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وربما نائب الرئيس مايك بنس. لكن اللقاءات المواكبة هي التي ترتدي أهمية أكبر، ففيها يدخل الحريري في التفاصيل الصغيرة. وسيكون عليه أن يشرح النقاط التي يستطيع فيها التجاوب مع الأميركيين، وتلك التي يعجز عن ذلك بسبب نفوذ «حزب الله» الراجح في القرار الداخلي.
سبق أن تبلَّغ الحريري وسائر المسؤولين اللبنانيين دعوات واضحة إلى فكّ ارتباط الدولة بـ»الحزب»، بدءاً من توليه وزارات سيادية أو خدماتية أساسية، لكنهم لم يتجاوبوا. فوزارة الصحة هي اليوم في يد «الحزب»، وكذلك غالبية القرار السياسي.
لا يرتاح الأميركيون إلى هذا «التراخي». ويعتقدون أنهم منحوا القوى السياسية اللبنانية تغطية لفك ارتباطها بـ»الحزب»، من خلال رفع مستوى العقوبات عليه وإضعاف مصادر تمويله. وفي اعتقادهم أنّ العقوبات دفعت «الحزب» إلى «التواضع» نسبياً، واعترافه بحاجته إلى قوى أخرى تدافع عنه. وهذه ورقة يمكن لهذه القوى أن تستخدمها لمساومة «الحزب» والتخفيف من نفوذه.
طبعاً، العديد من هذه القوى (14 آذار تحديداً) يقول للأميركيين إن «التنظير» من واشنطن سهل. وأما مواجهة «الحزب» وسلاحه في بيروت فهو مسألة شاقّة. وجزئياً، تفهَّمت إدارة ترامب هذا المنطق، لكن الفريق الجديد المعني بالشرق الأوسط وإيران يرى أن في الإمكان «مقاومة» النفوذ الإيراني أكثر.
وعشية زيارة الحريري، قدَّم هذا الفريق إثباتاً لصحّة نظريته. فبيان السفارة الأميركية، دفاعاً عن جنبلاط، أوقف الهجمة عليه وأجبر الجميع على العودة إلى التوازن. وفي رأي بعض المطلعين أن البيان جرى إعداده أساساً في واشنطن وتولَّت عوكر إصداره. وبهذا النموذج، يمكن للحريري أن يوسّع هامش المناورة للحدّ من تنامي نفوذ «الحزب» وإمساكه بالقرار السياسي.
وهذه النظرة تلتقي مع نظرة الرياض التي عبّرت عنها أزمة الاستقالة، في تشرين الثاني 2017. وصحيح أن الحريري نجح يومذاك- بدعمٍ فرنسي- في تسويق نظريته القائلة بالمراهنة على الوقت لإضعاف «الحزب»، لكن واشنطن والرياض مرَّرتا الأزمة مرحلياً، وطلبتا منه التشدُّد قدر الإمكان مع «الحزب»، وقد وعدهما بتحقيق ذلك في الانتخابات النيابية (ربيع 2018) والحكومة الناتجة منها والإدارة. لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقق.
في المقابل، ماذا يفعل «حزب الله»؟
هو مرتاح إلى أنه يمسك بغالبية القرار، ومعه حلفاؤه في «التيار الوطني الحر» يمسكون برئاسة الجمهورية ولهم وزن فاعل في الحكومة والمجلس، وما زال لهم رصيدهم القديم لدى الولايات المتحدة. ويرتاح «الحزب» إلى أنّ الحريري موافق على هذه المعادلة مرغماً، ضمن تسوية 2016.
وما يهم «الحزب» هو أن تستمر التسوية في حمايته. ولذلك، هو مطمئن إلى أنّ الحريري، ولو جرى «تحريضه» في واشنطن، فسيبقى «تحت السقف» في لبنان. ولكن، يهمّ «الحزب» أيضاً ألّا يحترق الحريري أميركياً.
فهناك كلام يتداول منذ أسابيع أنّ قوى عربية بدأت تفكر فعلاً في احتمال تغيير الحريري إذا أصبحت الخسائر من وجوده في السراي أكبر من الأرباح. ويردُّ قريبون من «الحزب» بتسريب أجواء عن استعداده أيضاً لتغيير الحريري والإتيان برئيس حكومة مُوالٍ. و»لنرَ مَن يتضرّر من إسقاط التسوية».
البارز أنّ طاقماً أكثر تشدداً إزاء «حزب الله» دخل الخارجية الأميركية. وهذا يلائم السعوديين والحلفاء العرب. وهذا الطاقم هو الذي سيلتقيه الحريري ويتبلّغ منه الدعوة إلى التشدّد مع «الحزب»، مقابل نهج أكثر تساهلاً في المفاوضات الحدودية المنتظرة مع إسرائيل.
ومجدداً، سيطلب الحريري من الأميركيين أن يراعوا الخصوصية اللبنانية. وفيما سيناشدهم تغطية لبنان ليصمد اقتصادياً ومالياً، انتظاراً لأموال «سيدر»، سيذكِّره الأميركيون بأنّ الإنقاذ الاقتصادي والمالي يتعلق أيضاً بسيطرة «الحزب» على المرافق والمعابر الشرعية وغير الشرعية وموارد أخرى.
سيسمع الحريري كلاماً كبيراً من الطاقم الأميركي الجديد. وقوام هذا الطاقم دايفيد شينكر، الذي يخلف دايفيد ساترفيلد في منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وفي رعاية الملف اللبناني. ومعلوم أنّ ساترفيلد «مُلَبْنَن» و»طويل البال» في الملف اللبناني.
الآخرون في الفريق الأميركي ليسوا أقلّ تشدداً، ومنهم اثنان من الأكثر التصاقاً بنهج ترامب:
جويل رايبورن الضابط المتقاعد، الذي كان كبير مدراءِ مجلس الأمن القومي الخاص بإيران والعراق وسوريا ولبنان، والذي يتولّى منصب النائب المساعد لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى والمبعوث الخاص إلى سوريا. وأندرو تابلر الباحث في معهد واشنطن، والذي صار مديراً لقسم سوريا في مجلس الأمن القومي.
الأرجح، سيسمع الحريري في واشنطن أنّ «طول البال» قد شارف على الانتهاء، وأن القوى اللبنانية المتعاونة مع «حزب الله» ستكون مستهدفة بالعقوبات المقبلة. وهنا المقصود خصوصاً «التيار الوطني الحرّ». وأما الآخرون، الحريري وجنبلاط والدكتور سمير جعجع، فالمتوقع منهم أكبر من الوقائع.
هل يستطيع الحريري أن يلتزم مستوى أعلى من التشدُّد مع «الحزب»؟ على الأرجح، هو سيستعيد مناخ 2017. أي إنه سيتعهّد بالتشدُّد، لكنه لن يفعل. عملياً «سينسى». سيراهن مجدداً على الوقت. الوقت هو المعشوق الأقرب إلى قلب الحريري في كل الملفات. ولكل ساعة ملائكتها… إلى أن تأتي ساعة أخرى!