أمّا وقد هدأت النّفوس وطُيِّبت الخواطر بعدما تمّ الإنقضاض على "البُّعبُع" الذي كاد يودي بالإيمان والمؤمنين! يتفرّغ "المؤمنون" في رعاياهم المباركة، حيث تسود الإلفة والتّفاهم والإتفاق ويعمّ السلام الوئام وتَملِك المحبّة، للإحتفال بأعيادهم المقدّسة، بما لا يدع مجالاً للشكّ في أنَّ الإيمان على زَودٍ والرّجاء على ثبات والمحبّة على سُؤدُد.
يعود "المؤمنون" إلى رعاياهم وأماكن عبادتهم ليحتفلوا بآلهتهم على عادتهم "المباركة" برعاية كنسيّة، وبدعوةٍ من لجان الأوقاف والمُنظّمات الرّوحيّة! يعودوا فيُعلنوا افتتاح زمن الصّخب والهرج والمَرج، وليرقصوا ويتمايلوا على إيقاع الطبلة والدّربكة بمناسبة أعياد شُفعائهم، فيُغَنّوا عِوضَ أن يُرَتّلوا ويُرَنّموا ويشكروا(أف5: 19)، وإن فعلوا، فشَحيحاً! ويتناولوا الطّعام المُدَسَّم ويُعاقروا الخمرة التي فيها الخلاعة، على شرف أولياء الله، عِوضَ أن يتناولوا الطّعام الباقي للحياة الأبدية(يو6: 27). ويرجِعوا بعد ذلِك إلى بيوتهم ممتليئن من باخوس إله الخمر، وشيفا إله الرّقص، وأوكه موتشي إله الطعام، عِوَض الإمتلاء من الرّوح(أف5: 18)، الذي يقودُهم إلى الكمال(متى5: 48). نعم، "للمؤمنين" لَيلاهُم ولياليهم! ولأولياء الله مهرجاناتهم الموسيقيّة التي تَشُدُّ إليها طالبي التسلية والترويح عن النّفس، وحيثُ التألّق والهتاف "للَيلى" هذا العالم.
ولا يعتقدنَّ أحد أنني على افتراقٍ مع الموسيقى الطيّبة والمهرجانات الموسيقيّة الرّاقية، ولكنّني مع فكّ الحلف الذي أقمناه بحرّيتنا بينها وبين المناسبات الروحيّة: فللمناسبات الدنيويّة موسيقاها واحتفالاتها الخاصّة بِها، وللمناسبات الرّوحيّة موسيقاها واحتفالاتها الخاصّة بها أيضاً. ولا يجوز قطعاً إلباس الرّوحي بلباس الزّمني، والقبول بهذا النّزوح السّافِر إلى الزّمني على حساب الرّوحيّ، بحيث يختلط الواحِدُ بالآخر، ولا يعود يُفرَّق بينهما. أن يخترق الرّوحي الزّمني، أمرٌ لا رَيبَ فيه، وهو ضروريّ إذ أنّه يرتقي بالزّمني إلى ما فيه خير الإنسان. ولكن أن يخترق الزّمني الرّوحي، أمرٌ يُسقِط الجميع في الهاوية. هذا ما يجدر بِنا أن نعيَه قبل فوات الأوان الذي اقترب كثيراً...وكثيراً جدّاً، لِدرجة أنّه يذهب بنا سريعاً إلى الهاوية السّحيقة بطريقةٍ "مُهذّبة" لا تُثير الرّيبَة كالمشاريع الفاقِعة، ولكنّها ليست أقلّ ضرراً منها على الإيمان والمؤمنين. كنت، ولا زلت، أُنبّه من هذا الوحش "المُهذّب" الذي يفترسنا بشكلٍ ناعم ويقتلعنا من جذورنا المقدّسة بطريقةٍ لطيفة. ولكن للأسف الشّديد، من دون أن يلقى كلامي الآذان الصّاغية، حتى عند المؤتمنين على الإيمان. فما هو صائر صائر، وقطار الصغائر سائر، والحال في أحلى حاله، وصُنّاع القرار في غيبوبة!
وفي عَودٍ على بَدء، فإنّ لجان الأوقاف والمنظّمات الرّوحية ليست الجهة الصّحيحة لتنظيم مهرجاناتٍ موسيقيّة، ولا يحقّ لها أن تسرق الأعياد من المُعيِّدين، فتستغلّ سُلطتها المعنويّة لتدعو المؤمنين باسمها وباسم الرّعية إلى مهرجاناتٍ موسيقيّة بمناسبة الأعياد المقدّسة. ولا يحقّ لها قطعاً أن تُغيّر مسار العيد وتنحرِف به عن الأصالة الرّوحيّة لِما في ذلِك من فائدة ماديّة، لأنّ ذلِك مُخالِف لطبيعة العيد، كما ولطبيعة عملِها ورسالتها. لا... لا ... ليس من شأن هؤلاء تنظيم حفلاتٍ دنيويّة كما يفعلون الآن، ولم يوجدوا من أجل هذا الغاية، بل من أجل المُساعدة كأعضاء في جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة، على بِناء ملكوت السّماوات التي دشّنه يسوع بموته وقيامته، وجعل من الكنيسة أداة خلاص لكلّ النّاس.
كم آسف عندما أرى اليافطات الدعائيّة المنتشرة في كلّ مكان، وحتى فوق مستوعبات القُمامة، تدعونا باسم المؤتمنين على كنيسة يسوع إلى الهرج والمرج برعايةٍ روحيّة. وحبّذا لو يستغلّ هؤلاء طاقاتهم الكنسيّة في مساعدة المؤمنين على الأرتقاء إلى فوق من خلال برامج روحية هُم أولى بإعدادها من أيّة جهةٍ أُخرى، لكنّا بألف خير.
إلى متى سيبقى هذا الجزر في كنائسنا؟ رُبّما إلى حين اليقظة التي نأمل بأن تكون قريبة وقريبة جدّاً، لئلاّ يسبق السيف العَذل.