لولا أن الدكتور عمر تدمري في ثمانينيات القرن الماضي أشنى على العلويين عقائديا في كتابه "تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور" لما أقدمَ رُبما الكاتبان المرحومان السوريان حامد حسن وأحمد حسن على الرد عليه بكتابهما المشترك: "المسلمون العلويون في لبنان: واسألِ التاريخ، ط1/1989".
ويمكن القول أن هذا الكتاب الوحيد هو محاولة كانت ممتازة في وقتها لتأريخ الوجود العلوي في العصر الوسيط، وردِّ بعض التهم التي سيقت ضدهم، ولكنها جاءت سريعة بعيدة عن التفصيل والتدقيق، وتنتهج منهج الإيجاز اللغوي، لا الاستطراد التاريخي...
حتى إذا جئنا إلى العصر الحديث والمعاصر، وقعنا في متاهةٍ كبرى، وضياعٍ بأكملهِ لكل تفصيلٍ، سوى لمحاتٍ تظفرُ بها بعد جهدٍ جهيد، في خبايا كتبٍ مخطوطةٍ، وأوراق منسيةٍ، وزوايا صفحاتٍ، وهوامش موسوعات، والتفصيل في هذا الغموض يزيد الأمر غموضاً.
وما يهمنا هنا، هو التاريخ المعاصر (1918) أما ما قبله من تاريخ حديث (1516-1918) فقد تداخلت فيه الجغرافيا السورية-اللبنانية، ولا يمكن مطلقاً الكلام عن العلويين كجماعةٍ مستقلة في لبنان لها هويتها الوطنية المميزة عن باقي العلويين في بلاد الشام.
وأول ما يجب الانتباه إليه هو المقارنة بين إحصاء 1921، وإحصاء 1932، وبملاحظة بسيطة نجد أن العلويين أدرجوا تحت خانة "مختلف" مع اللاتين، وأن نسبتهم خلال (11) سنة تراجعت كثيراً، وهذا شيءٌ ملفتٌ للنظر، في ظل إرتفاعٍ ملحوظٍ في عدد سكان الجمهورية اللبنانية.
وإذا علمنا جميعاً أن إعلان دولة لبنان الكبير تمَّ في (1 أيلول 1920) وبعده بيومٍ واحدٍ فقط (2 أيلول) تم إعلان دولة العلويين من قبل الجنرال غورو نفسه في البلدين، ما يثير تساؤلاتٍ جداً مهمة حول محاولاتٍ غير بريئة لاضعافِ وجودهم اللبناني، في وقت ذروتهم (المفترض) حال إعلان دولتهم المزعومة.
ثم تنقطع الأخبار عن العلويين في لبنان وتخفت بشكل فظيعٍ لا تلمح له أثراً إلاَّ بشكلٍ عابرٍ من هنا وهناك ويستمر لعقدين تقريباً، حيث تم إعلان الرابطة الخيرية الإسلامية العلوية (1950) من قبل بعض الشباب الواعي، ولعبت دوراً بارزاً في حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، وشكلت نقطة تحول أولى مهمة لهم، المؤسف في هذا الأمر أنَّ مَنْ أسَّسها وساهم في دعمها لا نذكره بشيءٍ أبداً، ويسيطر عليها حالياً من لم يكن له دور البتة، فلم يكن موجوداً أصلاً على مسرح الأحداث.
ثم تحدثُ عملية اغتيالٍ لشيخٍ علوي (يوم الاثنين 19 آب 1958) في قرية (حنيدر العكاريّة) تم على إثر استشهاده تهجير عائلاتٍ بأكملها من قرى بكاملها، وأنشأتْ قريةٌ في الكورة من بعض هذه العائلات المهجَّرة، والكثير منها رحل إلى سوريا أو سافر إلى المهجر.
هذه الحادثة الأليمة التي هزّتْ وجدان العلويين قاطبة، في وقتٍ كان عهد الرئيس الراحل كميل شمعون يشهد اضطرابات كبرى، لم يُنتبه إليها كما يبدو في ظل هذه الصراعات، أو انتُبه إليها ونحن في غفلة عن أمرنا.
وفي أواخر التسينيات حدثت ثورة للعلويين في عكار ضد الإقطاع، كان لهم دوراً مهماً فيها، حسب الروايات أن بعض الجرائد قد ذكرتهم ببعضٍ من تقاريرها.
ونتابع وصولاً إلى الحرب اللبنانيّة، تشكلت عام (1975) جبهة المواجهة الوطنية بقيادة علوي (علي عيد) سني(طلال المرعبي) شيعي(سهيل حمادة) سني (نجاح قزعون) ومن ثم تشكّل الحزب العربي(1979) ونتوقف هنا، لطرح سؤال مهم جداً: متى بدأ ارتباط العلوييين في لبنان مع القيادة السوريّة؟ ولماذا؟ لأن من تناول هذا الأمر تناوله طائفياً، في حين أن التاريخ يتكلم غير ذلك أبداً.
وفتح هذا الباب سيشكل تفسيراً ربما منطقياً، لارتباطهم العاطفي العميق، قد نجاوب عليه فيما بعد، وإن كان التبرير يحتاج إلى عقول منفتحةٍ، وقلوب كبيرةٍ.
وخلاصة ما يخرج به المتابع المنصف بسهولة هي: كيف أن الصدفة التاريخية راحتْ تلعبُ بحريةٍ بإيصال ممثليهم، بشكل لا يمكن منطقياً تفسيره إلاَّ من باب اللامتوقع، وربما هي الصدفة نفسها كانت نقمةً عليهم، لم تفارقهم كما يبدو حتى اليوم؛ فظهرت شخصيات وغابت أخرى، لا تمتلك شيئاً من مؤهلات قياديّة أو أسبقية سياديّة سوى أن التاريخ وقف لصالحها. واستمرت الصدفة في النيابة العلوية، فأفشلتها أي إفشالٍ، ولم تكتبْ للعلويين أية خبرةً، ولم تخرج لهم أيّة ثمرة، بل كانت كلها زوبعة في فنجان أحداثهم، ذهبت جفاءً، وبقي العلويون حتى لحظتنا هذه يبحثون عن دور سياسيٍ على المسرح اللبناني، بعدما اقتصر دورهم للأسف على معارك عبثيّة لن يخرجوا من تبعاتها في القريب؛ لأسباب نضيقُ عن ذكرها هنا، لنختم ببيتين لرئيس المجلس الإسلامي العلوي، الشيخ المرحوم أسد عاصي: كذوبٌ هو التاريخُ إلاَّ قليلهُ تلوَّن بالأهواءِ منْ ريشةِ الحبرِ فخذهُ من الأشياءِ تحكي بصمتها وقائعَ صِدق الحالِ، واضحةَ الجَهرِ.