سقط "إتفاق إدلب"(1) وتحرّك الجيش السُوري بدعم برّي من قبل العديد من الفصائل المُسلّحة، وبغطاء جويّ كثيف من جانب الطيران الروسي، نحو مواقع الجماعات المُسلحة في المُحافظة الوحيدة الخارجة عن سُلطة النظام، فتقدّم داخل مدينة "خان شيخون"، وسيطر على الطريق الدَولي، مُحاولاً قطع طريق الإمداد عن المُسلّحين المُعارضين في ريف حماه الشمالي. فما هي الأسباب، وهل بدأ الجيش السُوري وحلفاؤه بتنفيذ خطّة الحسم العسكري للحرب السُوريّة–كما سبق وأن هددّوا مرارًا في السابق؟.
بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الوضع في سوريا تغيّر كثيرًا خلال السنتين الأخيرتين، بعد تقلّص تأثير الولايات المتحدة الأميركيّة والدول الخليجيّة في الوضع الميداني، بحيث سقطت كل الإجتماعات الدَولية التي كانت مُخصّصة لإيجاد تسوية دائمة للنزاع في سوريا، وصارت "الكلمة الفصل" مَحصورة بثلاث جهات فقط، هي: روسيا بالدرجة الأولى والتي تتمتّع بثقل سياسي كبير وبثقل عسكري ميداني أيضًا، وتركيا بالدرجة الثانية والتي تتمتّع من جهتها بثقل سياسي إقليمي لا بأس به، مع قُدرة على مدّ الجماعات المُسلّحة في سوريا بالسلاح والذخائر بحكم الحدود المُشتركة، وإيران بالدرجة الثالثة والتي تتمتّع بدورها بثقل عسكري ميداني كبير نتيجة قيامها بحشد مجموعات واسعة من الفصائل المُقاتلة الشيعيّة، في سوريا، لمُقاتلة المُتشدّدين الإسلاميّين–على إختلاف إنتماءاتهم. ولا شكّ أنّ الإجتماعات التي تُعقد دَوريًا في العاصمة الكازاخستانيّة بين هذه القُوى الثلاث، هي التي باتت تُحدّد إتجاهات النزاع في سوريا، أكان نحو الحرب أم نحو التسوية.
وفي هذا السياق، وبعد فترة طويلة من الهدوء في محافظة إدلب، عادت المعارك العنيفة من جديد، والسبب أنّ النظام السوري يعتبر أنّ تركيا أخلّت ببنود الإتفاق، حيث أنّها كانت قد تعهّدت بضمان إنسحاب المجموعات المُسلّحة، بما فيها "هيئة تحرير الشام"، لكنّها زجّت بدلاً من ذلك بوحدات عسكريّة تركيّة في الأراضي السُوريّة، بحجّة مُواجهة "التهديدات الإرهابيّة"، بينما هدفت أنقره من وراء تدخّلها العسكري في سوريا، إلى إقتطاع أجزاء من الأراضي السُوريّة لإقامة "منطقة آمنة" تفصل تركيا عن مناطق إنتشار "وحدات حماية الشعب الكردي". وقد عانى الجيش السُوري في المرحلة الأخيرة من نزف دموي، بسبب تعرّض مواقعه لهجمات مُفاجئة في أكثر من جبهة، نتيجة إستفادة الجماعات المُسلّحة من الهدوء الذي كان قائمًا في إدلب. وقد جاء توافق كل من واشنطن وأنقره أخيرًا على إقامة "منطقة آمنة" في سوريا، بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير–إذا جاز التعبير، حيث ضربا عرض الحائط مُعارضة النظام السُوري لهذا الأمر، علمًا أنّ الهدف الأميركي من هذه الخطوة يتمثّل بالإحتفاظ بورقة تفاوض مهمّة للمُستقبل، بينما الهدف التركي هو تأمين الدعم اللوجستي للفصائل العسكريّة المُعارضة المُؤيّدةلتركيا، وخُصوصًا فرض حصار على مناطق النُفوذ الكردي في الداخل السُوري، فكان القرار الروسي–السوري–الإيراني بإعادة فتح الجبهات من جديد.
في المُقابل، وفي وجهة نظر مُختلفة للأسباب التي دفعت الثلاثي المَذكور أعلاه إلى إعادة تقديم الخيار العسكري، وُصول المحور الداعم للجمَاعات المُسلّحة المُعارضة،إلى أسوأ أوضاعه، لأسباب عدّة، الأمر الذي شجّع النظام السوري والقوى الحليفة له، على إستغلال الأمر، وبالتالي على العمل عسكريًا على سحب آخر ورقة مُهمّة من أيدي الدول المُناهضة له. ومن هذه الأسباب، الخلافات المُتفاقمة بين المملكة العربيّة السُعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة، والتي تظهّرت بشكل واضح أخيرًا في اليمن، حيث تدعم المملكة العربيّة السُعوديّة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي والوحدات العسكريّة التابعة لها، بينما تدعم دولة الإمارات العربيّة المتحدة "المجلس الإنتقالي الجنوبي" والقوات العسكريّة التي تأتمر به، علمًا أنّ التقاتل في ليبيا بين قوات "حكومة الوفاق الليبي" المُعترف بها دَوليًا، وقوّات اللواء الليبي المُتقاعد خليفة حفتر، لا تختلف كثيرًا عن هذه الصُورة وعن هذا الإنقسام.
في كل الأحوال، وبغضّ النظر عن الخلفيّات والأسباب، الأكيد أنّ الجيش السُوري وبدعم روسي وإيراني، سيُواصل عمليّاته العسكريّة الرامية إلى كسر شوكة مُعارضيه بشكل نهائي هذه المرّة، وكل تقدّم ميداني يُنجزه يصبّ في مصلحته على الأرض من الناحية العسكريّة، ويصبّ في مصلحته على مُستوى أوراق التفاوض من الناحية السياسيّة. وليس بجديد على النظام السُوري إعتماده سياسة "الأرض المَحروقة" عسكريًا، ولا سياسة "المُماطلة والإستنزاف" سياسيًا، حيث أنّ هذه السياسات أثبتت نجاحها في السابق، وهي تُثبت نجاحها اليوم من جديد!.
في الختام، لم يعد بيد الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبيّة والغربيّة وكذلك الدول العربيّة المُعارضة للنظام السُوري، سوى ورقة تمويل عمليّات إعادة الإعمار، للتلويح بها بوجه الرئيس السوري بشّار الأسد ومن يقف خلفه. ويبدو أنّه حتى تركيا ستفقد الكثير من الأوراق المُهمّة بيدها في المستقبل القريب، ما لم تُسارع إلى التوصّل إلى تسوية جديدة مع روسيا تحفظ لها جزءًا من مصالحها ومن مصالح الجماعات السُورية المَدعومة من قبلها، بدلاً من التلهّي في خلافاتها مع الأكراد والتي كانت أحد أهمّ الأسباب في تقسيم "المُعارضات السُوري"، إلى جانب الخلافات العقائديّة بين الدول الإسلاميّة الداعمة للمُعارضة، وكذلك بين فصائل هذه المُعارضة المُسلّحة في ما بينها.