تتسابق الإنجازات العسكرية السورية شمالاً، نتيجة وجود قرار سوري بتنظيف مساحات الشمال ثم الشرق من المسلحين، وضمان وجود منطقة "آمنة" طالب بها الأتراك على حدودهم بعمق يتراوح بين ١٥ و ٢٠ كيلومترا. ويأتي تنفيذ السيناريو الميداني في مواجهة مجموعات مسلحة كانت رفضت التسليم بالوقائع الجديدة، رغم إبلاغهم من قبل الأتراك: إما إستسلامكم للصيغة السورية الجديدة أو الموت. وهذا ما حصل بمقتل رؤوس كبيرة في قيادة المجموعات في الآونة الاخيرة، جرت تصفيتها بإغتيالات نفذتها مجموعات مسلحة أخرى.
إذا كان هناك من يعتبر ان الخلاف التركي-السوري لا يزال قائما، فإن الخلاف الجوهري لم يعد موجودا بين انقره ودمشق، بعد عقد الجانبين عشرات اللقاءات الأمنية في طهران وموسكو وبلدة كسب الحدودية.
انما يحاول الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الاستفادة من "استصلاح" جزء من المجموعات المسلحة لنقلهم الى جبال قنديل ومنبج لقتال الاكراد.
هنا تتقاطع المصالح السورية-التركية-الايرانية-الروسية بإعادة تطويع الكرد، ولا يصبح معها الإعتماد الكردي على الأميركيين مخلّصاً للورطة الكردية. فالبيت الأبيض يريد انسحابا من سوريا منذ عام ٢٠١٦، لكن الامن القومي الأميركي يحاول البقاء قدر المستطاع تحت عنوان: تحقيق مزيد من الضغوط والمكتسبات في سوريا.
وعلى هذا الاساس، يبدو المشهد الميداني الآن: نجاحات عسكرية جاءت بشكل قياسي ونوعي للتقدم الى الاوتوستراد الدولي بعد دخول الجيش السوري مدينة خان شيخون، ومحاصرة كامل جيب ريف حماه الشمالي، بالتزامن مع تحضير عملية واسعة انطلاقا من ريف اللاذقية الشرقي لجهة كباني، السرمانية، جسر الشغور، وحشر المسلحين في القسم الغربي من ادلب. هذا يشير الى وجود موافقة تركية واضحة، وتنفيذ انقره الإلتزام مع الايرانيين والروس، في صفقة تحقّق لتركيا المنطقة الآمنة، وتفتح ايضاً الطريق الدولي دمشق-حلب.
واذا كانت الشكوك تحيط بمسألة الإتفاق السوري-التركي، فإن المعادلة البسيطة التي تقطع الشك باليقين، تقوم على اساس: لو لم يكن الأتراك ملتزمين بهذا الإتفاق ببعده الإيراني والروسي، لكنّا شاهدنا قاعدة انجرليك التركية بتصرف الأميركيين ضد ايران في قضية مضيق هرمز.
أما من يتحدث عن تباطؤ تركي، او عدم اعلان انقره مواقف علنية، فهو نتيجة الحسابات الداخلية في تركيا.
بعد الإنتهاء من تنظيف المساحات الشمالية من المسلحين، ستكون المجموعات الكردية في عين العاصفة هذه المرة، لتنفيذ جزء اساسي من الإتفاق الكبير بين السوريين والاتراك والروس والإيرانيين.
لا تزال الفرصة متاحة امام الاكراد لتجنيب انفسهم معارك طاحنة على خطين: سوريا وتركيا. واذا كانت مجموعات كردية تتواصل مع السعودية لضمان تأمين سبل مواجهة انقره، فإن الإمارات العربية حاولت إقناع الرياض بأن مواجهة الاتراك يكون عبر دعم الجيش السوري، لا بواسطة الكرد. لم تقتنع السعودية بالرأي الإماراتي، رغم التواصل الأمني الذي حصل بين السعوديين والسوريين في الاشهر القليلة الماضية برعاية إماراتية. تبدو دولة الإمارات اكثر واقعية في التعاطي مع الملفات الإقليمية، فهي تفاوض الحوثيين في اليمن، والإيرانيين والسوريين، من دون ان تتنازل عن موقفها بشأن تدخل تركيا. لكن التباين الاماراتي-السعودي قد تتكرر نتائجه اليمنية في شمال وشرق سوريا أيضا. عندها ستسجل الإمارات نقاطا جديدة لصالح رؤيتها الإقليمية.