في الكواليس الديبلوماسية كلام على نجاح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في زحزحة موقف نظيره الاميركي دونالد ترامب حيال ملف العقوبات الاميركية على ايران على هامش أعمال قمة الدول السبع في باريس في فرنسا، بعد أن شرح بإسهاب خلال جلسة الساعتين الخَطر الذي يهدد استقرار دول الشرق الاوسط، بسبب حشر إيران في الزاوية واندفاع الجميع في لعبة حافة الهاوية، خصوصاً أن بعض الاطراف يسعى لدفع الوضع في اتجاه التفجير. وإذا صحّ ما نُقل فإنّ الاثبات على ذلك لم يتأخر. فبعد ساعات معدودة على اعلان باريس وجود ايجابيات وتقدم في ملف العقوبات على ايران، نفذت اسرائيل هجوماً هو الأعنف على موقع قيل إنه لـ«حزب الله» في قرية عقربا بالقرب من العاصمة دمشق.
العملية الاسرائيلية أشرف عليها رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو بصفته وزيراً للدفاع، ورفع معها درجة الطوارئ، حيث جرى إغلاق المجال الجوي فوق الجولان ونشر منظومة القبة الحديدية تقديراً لخطورة الوضع.
وبعد وقت قصير، حصل ما حصل في ضاحية بيروت الجنوبية. ولكن هذه المرة صَمت نتنياهو، ولم تجد المصادر الاسرائيلية ما تعلّق عليه، بما يؤشّر الى أن «إسقاط» طائرة الدرون الاولى وما تلاها من انفجار الطائرة الثانية، كانا خارج الحسابات الاسرائيلية، وكشفَ بالملموس الخرق الاسرائيلي الفاضح للقرار 1701، والذي وصل الى العاصمة بيروت ودفعَ بالأمور في اتجاهات خطيرة.
قبل ذلك كانت طائرات الدرون الاسرائيلية تستهدف مواقع «الحشد الشعبي» في العراق، لكن لا جدال في أنّ الضربة الاعنف كانت قرب دمشق، أمّا المفاجأة فحصلت في بيروت.
وتشير التوقعات الى انّ «حزب الله» سيكون له رد انتقامي على ما حصل في الضاحية الجنوبية، والأهم أنه سيرد على سقوط عنصرين له قرب دمشق. فأمين عام «حزب الله» كان قد تعهّد سابقاً بذلك، لكن يبقى السؤال عن الهدف الحقيقي لنتنياهو في دفع الامور في اتجاهات دراماتيكية.
التقدير الاول يؤشّر الى وضعه الانتخابي الحَرج، حيث تتحدث التقارير عن تراجع واضح في قاعدته الانتخابية. والمسألة عنده لم تعد طموحاً سياسياً، بل الافلات من محاكمته بتهم الفساد واحتمال زَجّه في السجن.
وفي الوقت عينه إنّ أخصامه يأخذون عليه سياسته المتراخية التي أدّت الى ضرب هيبة اسرائيل، وهو ما يؤثر في خيارات جمهور اليمين الذي ينتمي إليه.
فعلى سبيل المثال، إن زعيم حزب «أزرق أبيض»، الجنرال بيني غانتس، اتهم نتنياهو بمَحو قوة الردع الاسرائيلية في غزة. واضاف انّ حركة «حماس» لم تعد تخشى الجيش الاسرائيلي. ووعد بإطلاق حملة عسكرية ضدها في غزة في حال فوز حزبه في الانتخابات.
أضف الى ذلك أنّ الضربات الاسرائيلية ضد مواقع «الحشد الشعبي» في العراق لم تعط التأثير الكافي داخل اسرائيل، بل على العكس، فإن حصول عمليات في الضفة من خلال مجموعات منظمة، والتي وضعت في إطار الرد الايراني على هجمات العراق، زادت القلق لدى الشارع الاسرائيلي. وبالتالي، فإنّ نتنياهو اراد من ضربة دمشق إسماع شارعه دوي القصف.
من هنا يفهم كلام نتنياهو بعد ضربة دمشق، حين اقتبسَ جملة من التوراة تقول: «من ينوي قتلك اقتله أولاً».
في الواقع كان يحاكي الغريزة الدينية لشارعه الانتخابي. ولم يكن تفصيلاً ان يتحدث نتنياهو قبل مدة، في جلسة مغلقة، عن اعتباره مدير «الموساد»، يوسي كوهين، وسفيره في واشنطن، رون ديرمر، خليفَين مُحتملين له.
لكن ما حصل في ضاحية بيروت كان خارج حساباته، حيث صارت «ذاكرة» الطائرة الاولى، التي «أسقطت» في يد خبراء «حزب الله»، نكسة أمنية كبيرة لم تستطع الطائرة الثانية المحمّلة بالمتفجرات من تدميرها.
والتقدير الثاني انّ ثمة فريقاً مؤلفاً من الصقور داخل الادارة الاميركية يدفع في اتجاه إجهاض اي تفاهم مُحتمل مع ايران، ودفع الامور باتجاه المواجهة في مقابل فريق آخر يبني حسابات مختلفة.
وتقول المعلومات إنّ عمليات القصف الاسرائيلية في العراق واجهَت معارضة عنيفة من ضباط كبار في الجيش الاميركي، أعربوا عن قلقهم من ردة فعل ايرانية على مواقع وجنود أميركيين في العراق، وهو ما سيؤذي ترامب في حملته الانتخابية في ظل العجز الاميركي عن رفع سقف التحدي العسكري.
ويعتقد أصحاب هذا التقدير انّ نتنياهو، المطوّق والمُحاصر في خياراته، قد يكون لمسَ تشجيعاً من أصحاب هذا التوجّه لتنفيذ ضربة نوعية في سوريا، خصوصاً بعدما صدرت معلومات فرنسية عن ليونة من جانب ترامب في مسألة العقوبات على ايران.
وللمناسبة، فإنّ ترامب عاد ونفى في وقت لاحق أن يكون قد وافقَ على رسالة فرنسية لإيران، بخلاف المعلومات التي تَرددت في اليوم السابق.
باختصار، إنّ أصحاب التقدير الثاني يضعون المسألة في إطار الصراع داخل الادارة الاميركية. امّا اصحاب التقدير الثالث فيتحدثون عن الانتخابات الاميركية والمصاعب التي بدأت تظهر في وجه ترامب. فالارقام الاقتصادية الى تراجع، وهو مسار سيبقى على حاله من الآن وحتى حصول الانتخابات بعد اكثر من سنة. ما يعني تراجع وَقع الورقة الاقتصادية التي تَسلّح بها ترامب دائماً.
أضف الى ذلك حاجة ترامب الماسّة لانتصار خارجي، فهو حتى الآن خسر في كوريا الشمالية وفنزويلا، وخسر الاتفاق النووي من دون التفاهم مع ايران.
والخسارة الأكبر حتى الآن هي مع ورقة «صفقة القرن»، والتي ستحترق بالكامل مع سقوط نتنياهو في الانتخابات. وسبق لترامب ان دفع بسخاء لنتنياهو لدعمه انتخابياً في المرة الماضية، حيث أيّدَ السيادة الاسرائيلية على القدس ونقل السفارة الاميركية اليها، ووافق على ضم الجولان الى اسرائيل. وهي هدايا ذهبت هباءً.
والأسوأ المشكلة التي ظهرت الآن بين ترامب واليهود الاميركيين، إثر كلام ترامب عن «تخوين» اليهود الذين سيقترعون للديموقراطيين، لاعتبارهم انّ استخدامه عبارة «عدم الولاء» يُشابه المصطلح الذي يستعمله مُعادو السامية.
مع الاشارة الى أنّ اليهود الاميركيين كانوا قد اقترعوا في الانتخابات الرئاسية السابقة بنسبة 71 في المئة لصالح هيلاري كلينتون، والمفاجأة كانت باقتراعهم بنسبة 79 في المئة لصالح الحزب الديموقراطي بعد سنتين في الانتخابات النصفية، رغم قرار ترامب حول القدس يومها.