بعد غِيابٍ يُشارف على نصف قرنٍ، يَعود الأَقْباط إِلى السِّياسة السُّودانيَّة، عبر بوَّابة مجلس السِّيادة، حيث تَوافق المَجْلس العَسْكري الانْتِقاليّ، و"إِعْلان قِوى الحريَّة والتَّغيير"، على تَرْشيح رَجاء عيسى عبد المَسيح، المُسْتشارة في وزارة العدل، الَّتي أَضْحت بالفِعْل، العُضو الحادي عشر للمَجْلس. لذا يُؤمَل خَيْرًا في هذا الإِطار، بَعْدما أَدَّى الفَريق عَبْد الفتَّاح البُرْهان الأَرْبعاء الماضي، اليَمين رئيسًا لـ"المَجْلس السِّياديِّ" الَّذي سيَحْكم السُّودان خلال مَرْحلةٍ انْتِقاليَّةٍ مدَّتُها 39 شهرًا، نحو الحُكْم المدنيِّ. ويَضمُّ المَجْلس في صُفوفِه القُبْطيَّةَ رجاء نيكولا عيسَى عبد المَسيح، بصفتِها عضوًا في المَجْلس الجَديد.
والأَقْباط لَيْسوا بِطارِئين في السُّودان، فلا سودانيَّ إِلاَّ وردَّد كَلِمات أُغْنية الفنَّان الرَّاحل حَسن خليفة العَطْبراوي، منذ سبعينيَّات القَرْن الماضي، والَّتي ظلَّت راسخةً إِلى يَوْمنا كإِحْدى الأُغْنيات الخالدة في المَكْتبة الموسيقيَّة السُّودانيَّة... وقد جاء في بَعْض أَبْيات الأُغْنية: "وبحقِّ بُطْرس يا فَتاتي، مَن شَفى الرَّجُل الكَسيح، وبمَرْيم العَذْراء والأَحْبار والرَّاعي الصَّليح... وبمار جِرْجس والكنيسة والمسيح، بالقسِّ... بالمِطْران بالجَرس المُرِنِّ على السُّطوح"...
إلى ذلك، تَحْتشد الذَّاكرة الأَدبيَّة السُّودانيَّة بالكَثير مِن القَصائد الشِّعْريَّة والأَعْمال الفنيَّة الَّتي كُتِبت، عن الأَقْباط الَّذين وَفدوا إِلى السُّودان -بحسب بَعْض المُؤرِّخين- في العام 270 م، غير أَنَّ هذه المَجْموعة السُّكَّانيَّة الَّتي كانت لا تَخْلو مَدينةٌ سودانيَّةٌ مِنها، حافَظت على نمَطٍ صارمٍ في مُخالطَتها المُجْتمع يَبْتعد تمامًا عن المُصاهرة والتَّزاوج مع المُكوِّنات المَحليَّة... وعلى رُغْم ذلك كان حُضورها مؤثِّرا وآسرًا لجميع السُّودانيِّين الَّذين أَحاطوها باحْتِرامٍ ومَحبّةٍ بالغَيْن. وعلى صَعيدٍ آخر، كان القانونيُّ هنري رياض من أَبْرز القانونيِّين في تاريخ السُّودان المُعاصِر، وقد رَفد المَكْتبة بمراجِعَ وتَرْجماتٍ، ساهَمت في تَكْوين وعي عددٍ لا يُحْصى من المُتعلِّمين. كما وكان أَيْضًا مَرْجعًا في لحَظات الشِّدَّة...
وسياسيًّا ضمَّت الأَحْزاب السُّودانيَّة شخصيَّاتٍ قُبْطيَّةً وازنةً، فقد بَرز عبد الله النَّجيب في قِيادة "الاتِّحاديِّين"، ولَطيف صبَّاغ في "حزب الأُمَّة"، وسمير جِرْجِس في "الحزب الشُّيوعيِّ"... وكذلك بَرز نبيل أَديب في قِيادة "التَّجمُّع الوَطنيِّ الدِّيمقراطيِّ".
لَمْحَة تاريخيَّة
ومُنْذ نَشْأة الدَّوْلة السُّودانيَّة الحَديثة، عَمِل الأَقْباط في المَصالح والإِدارات الحُكوميَّة، كالبَريد والبَرق والتِّلغراف والسِّكَّة الحَديد والإِدارات الماليَّة والحسابيَّة، والأَشْغال والزِّراعة والغابات والقَضاء والطُّبّ. كما وانتُدِب بَعْضُهم للبُحوث والاسْتِكْشاف في رُبوع السُّودان، وإِلَيْهم يُنْسب الفَضْل في "تَوْطين صِناعَة المَنْسوجات"، وبِدايات تَكْوين الفِرَق الرِّياضيَّة... وإِنَّ ثقة النَّاس في الأَقْباط جعلَتْهم يَتولَّوْن أَيْضًا وَظائف الصَّرافة والحِسابات، كما ويُنْسب فَضْل الانْضباط الصَّارم الَّذي لازَمَه إلى وقتٍ ليس بالبَعيد.
وفي المَجال الثَّقافيّ يَخْلد اسْم جورج مَشْرقي صاحِب المَقْهى الشَّهير في "أُم درمان"، الَّذي كان مقرًّا للطَّبقة المُثقَّفة السُّودانيَّة، وبخاصَّةٍ الشُّعراء والمُغنيِّين، وله يُنْسب الفَضْل في كُلِّ التَّسْجيلات الَّتي تمَّت للأُغْنِيات السُّودانيَّة. وكذلك لمَع اسْم يوسف ميخائيل، المُؤَرِّخ الَّذي كَتب مُذكَّراتِه عن الثَّوْرة المَهْديَّة والحُكْم التُّرْكيِّ، وكان الخَليفة عبد الله التَّعايشيّ، خليفة الإِمام المَهْديّ (1885 - 1898)، يَعْتبرُه سندًا للمَهْديَّة...
ويَعود الفَضْل إِلى أَقْباط السُّودان في تَأْسيس المَدْرسة الأَهْليَّة الأُوْلى للبَنات عام 1902، والمَكْتبة القُبْطيَّة عام 1908، والكليَّة القبطيَّة للأَوْلاد عام 1919. ويَذْكر التَّاريخ أَنَّ المَرْأة الأُوْلى الَّتي دخلت "كليَّة غردون التذكاريَّة" (جامعة الخُرْطوم لاحقًا)، كانت القبطيَّة آنجيل إسْحَق. كما ويَعود الفَضْل في دَوْر الأَقْباط الرِّياديِّ في السُّودان، إِلى طَبيعة ثَقافتِهم المُتقدِّمة على عاداتِ المُجْتمع الصَّارم آنذاك... وعلى رُغم أَنَّ الأَقْباط ظَلُّوا محلَّ تَقْديرٍ، ولم تُسجَّلْ حادثةٌ طائفيَّةٌ واحدةٌ في السُّودان كانوا طرفًا فيها، إِلاَّ أَنَّهم لم يَسْلموا مِن بَطْش نِظام "الإِخْوان" منذ حُلولِه، وقَد جعلهُم هدفًا لحَملاتٍ مُمَنْهجةٍ، كانت بدايتُها مع إِعْدام مُساعد الطيَّار جِرْجِس القسّ بَسْطس، بَعْدما "حُوكِم" عبر مَحْكمةٍ جائرةٍ، بتُهْمة "حيازة نقدٍ أَجْنبيٍّ".
كما وتفنَّنت وسائِل "الإِخْوان" في اضْطهاد الأَقْباط، بدءًا بالحَمْلة الإِعْلاميَّة عليْهم، ونَعْتهم بأَوْصافٍ تَحْريضيَّةٍ، ومُصادرة مُمْتلكات بَعْضهم بزَعْم "الدَّعْوة إِلى أَفْكارٍ دينيَّةٍ مُنْحرفةٍ تُخالف الإِسْلام"، ونقل رَسائِل إِلى كَثيرين مِنْهم بطريقةٍ غير مُباشرة للهِجْرة... لذا، وفور انْدِلاع الثَّوْرة الَّتي أَطاحَت بحُكْم "الإِخْوان"، انْخَرط الأَقْباط فيها على نحوٍ غَيْر مسبوقٍ، فكانوا في مُقدِّمة المُتظاهِرين، وفي مَيْدان "القِيادة العامَّة أَيَّام الاعْتِصام".
ولسان حال الأقباط اليوم: "الهِلال مع الصَّليب... السُّودان اليوم بيطيب"، بعدَما درج أَبْناء الطَّائفة القبطيَّة، على حِراسة المُعْتصمين، عندما كانوا خِلال الثَّوْرة السُّودانيَّة، يُؤَدُّون صَلاة الفجر، من "غَدْر" كَتائِب الظِّلِّ (التَّسْمية الشَّعْبيَّة لمجموعات الإِخْوان المُسلَّحة). فهل ثَمَّة "عَوْدةٌ كَريمَةٌ" للدَّوْر القُبْطيِّ في السُّودان؟.