هو الخرق الأخطر على الإطلاق للسيّادة اللبنانيّة منذ أكثر من عشر سنوات، بل منذ حرب تموز 2006. قد يلقى هذا التوصيف لما شهدته الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة السبت-الأحد، إجماعاً بين اللبنانيين، بمختلف انتماءاتهم السياسية.
حضر هذا التوصيف بشكلٍ أو آخر في المواقف الرسميّة التي صدرت عن رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، وعن وزيري الخارجية والدفاع وغيرهما، إيذاناً بـ"مواجهة دبلوماسية"، بدأت عملياً بالإعداد لشكوى رسمية إلى مجلس الأمن، واتصالات دوليّة للجم التوتر وتفادي التصعيد.
حضر هذا التوصيف أيضاً في خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، لكن من منظورٍ مختلف، إيذاناً بـ"مواجهة عسكرية" يبدو أنّ "الحزب" يجهّز لها، باعتبار أنّ الخرق الإسرائيلي لا يمكن أن يمرّ من دون محاسبة، وكأن شيئاً لم يكن، وذلك بمُعزَلٍ عن آراء البعض ممّن "سينزعجون"، كما قال نصر الله.
نوعان من المواجهة إذاً ينقسم حولها اللبنانيون، فأيّها يسبق، في ظلّ الاتصالات الحاصلة خوفاً من تفاقم الوضع؟ وهل تفلت الأمور، وتتحوّل المواجهة إلى حربٍ شاملة، تعيد إلى الأذهان تجربة تموز 2006؟!.
الإسرائيلي يريد الحرب؟!
ليس من المبالغة بمكان القول إنّ ما حصل في الضاحية الجنوبيّة لبيروت بدا مفاجئاً، وخارج سقف التوقّعات، خصوصاً أنّ الاستباحة الإسرائيليّة الجوية للسيادة اللبنانيّة مستمرّة منذ آب 2006، من دون أيّ رادع، إلا أنّ فصولها لم تصل يوماً إلى الشكل الذي اتخذته هذه المرّة، والذي وصفه السيد نصر الله بأنّه اعتداءٌ وعدوانٌ، وأنّ النيّة كانت ضرب هدفٍ محدَّد.
وإذا كان كثيرون في الداخل، سارعوا إلى تحذير "حزب الله" من الاستئثار بقرار الحرب والسلم، ومن توريط الدولة اللبنانيّة في حربٍ مدمّرةٍ جديدةٍ من أجل حساباتٍ إقليميّة، بل إنّ البعض ذهب إلى "تبنّي" رواياتٍ غير واقعيّة، على غرار أنّ المسيّرتيْن ليستا تابعتيْن لإسرائيل أصلاً، وأنّهما إيرانيّتا الصنع، للإيحاء وكأنّ الحزب هو من "يخترع" ذريعة للحرب، فإنّ الواقع يؤكد، بمُعزَلٍ عن الأهداف الحقيقية للهجوم الإسرائيليّ، والتي قد تتباين القراءات بشأنها، بأنّ الإسرائيليّ هو من جاء ليستفزّ "الحزب" في عقر داره، وكأنّه يريد جرّه إلى المواجهة.
ولا تتّضح الصورة الحقيقية للمشهد، إذا ما أخِذ معزولاً عمّا يحصل في المحيط، سواء في الداخل الإسرائيلي أو في المحور الإقليميّ العام، فما حصل في الضاحية الجنوبية جاء ضمن سلسلة أحداث كانت إسرائيل قاسمها المشترك على مدى الأيام الماضية، من إشعال جبهة غزة مجدّداً، إلى قصف مواقع "الحشد الشعبي" في العراق، مروراً بتجدّد الغارات على سوريا، وصولاً إلى استهداف مقاتلي "حزب الله" في الداخل السوري، وهو ما حدث السبت، وأشار إليه السيد نصر الله في كلمته.
وإذا كانت علامات استفهام تُطرَح حول "سرّ" الهجوم الإسرائيلي المتوازي على ما تُصنَّف بأنّها أهداف "إيرانية" في المنطقة، تزامناً مع استمرار المحادثات الغربية مع إيران، والتي يبدو أنّها تُقلِق إسرائيل، فإنّ الأمر ليس معزولاً أيضاً عن واقع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، الذي يستعدّ لانتخاباتٍ يعتبرها "مصيريّة"، في ضوء تراجع قاعدته الشعبية وخشيته من فقدان الحصانة التي تمنع زجّه في السجن، وهو ما تطلّب منه تحريك الجبهات دفعةً واحدة، لمواجهة الاتهامات بـ"التراخي" التي يستغلّها خصومه الانتخابيّون لصالحهم.
"الحزب" سيردّ!
لا جدال إذاً أنّ الإسرائيلي هو الذي يحرّك كلّ الجبهات، وجبهة "حزب الله" في لبنان واحدة منها، وبالتالي فإنّه من يستفزّ "الحزب" لجرّه نحو المعركة، وهو ما دفعه مثلاً إلى الردّ على تهديدات نصر الله، باستهداف موقعٍ لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في البقاع، مع ما لذلك من دلالات رمزيّة خطيرة، حتى لو صحّ ما قيل عن أنّ الموقع الذي تمّ استهدافه مراراً، بات عملياً فارغاً.
إزاء هذا الواقع، جاء خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" ليطابق التوقّعات، حيث توعّد بالردّ على الخروقات الإسرائيليّة، بل أطلق معادلاتٍ جديدة في وجه المسيّرات الإسرائيلية التي لن يُسمَح لها، على حدّ ما قال، بأن تسرح وتمرح في سماء لبنان وتستبيح سيادته كما كانت تفعل منذ انتهاء حرب تموز. ولم يخلُ خطاب نصر الله من "لطشةٍ" وجّهها إلى من "سينزعج" من اللبنانيين، في رسالةٍ فهم كثيرون أنّها قد تكون موجّهة إلى رئيس الحكومة سعد الحريري، إذ دعاهم إلى الحديث مع الأميركيين، ليتحدّثوا بدورهم مع الإسرائيليين، حتى "ينضبّوا".
وإذا كان "حزب الله" حسم أمره نظرياً بالردّ، من دون انتظار رأي خصومه، ممّن يعتقد أنّهم سيهاجمونه في كلّ الأحوال، حيث سيشمتون منه في حال عدم الردّ، وسيحمّلونه مسؤولية أيّ توتر في حال الردّ، فإنّ "الدبلوماسية" اللبنانية تحرّكت في المقابل، بدفعٍ من الحريري، لعلّها تتمكّن من تحقيق نتيجةٍ ما قبل فوات الأوان. ويقول مناصرو هذا الرأي بأنّ أيّ ردّ من "حزب الله" قد يخدم نتانياهو، طالما أنّه من يدفع باستفزازاته العابرة للحدود إلى المواجهة، وبالتالي فإنّ المطلوب تحصين الساحة اللبنانية ضدّ الحرب، لا العكس.
لكن، بين هذا الرأي وذاك، يبقى أنّ خيار الحرب الشاملة، الذي يخشى كثيرون من أن يؤدّي تدهور الأمور إلى فرضه كأمر واقع، لا يزال مستبعَداً حتى إشعارٍ آخر، أياً كان المسار الذي سلكته الأمور بعد ردّ "حزب الله"، إنْ حصل، لأنّ الإسرائيليّ أولاً يدرك أنّ لا مصلحة له بالحرب حالياً، باعتبار أنّ كلّ ما يريده نتانياهو تحسين صورته عشيّة الانتخابات، والظهور بمظهر من يواجه "العدو"، أيّ إيران، وثانياً لأنّ الغطاء الدوليّ للبنان لا يزال متوافراً، طالما أنّه لا يزال يمسك بورقة اللاجئين، في ظلّ الخشية من انتقال هؤلاء إلى دولٍ أخرى في حال اندلعت أيّ حرب، ما يعقّد المشهد أكثر وأكثر.
العين بالعين...
يتصرّف "حزب الله" مجدّداً وفق قاعدة "العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم"، وهو يتعامل مع الخروقات الإسرائيليّة الجديدة انطلاقاً من هذا المبدأ. لذلك، فهو يعتبر أنّ سكوته على هذه الخروقات، سيكسر "هيبته"، وسيفتح مساراً جديداً تتحوّل فيه الانتهاكات إلى أمرٍ بديهيّ لا نقاش فيه.
في المقابل، يصرّ خصوم "الحزب" في الداخل، على أنّ التفرّد بالردّ لا يفيد، لأنّه أولاً سيُفقِده التضامن الوطني، الذي لقيه في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي، وثانياً سيعرّض لبنان بأكمله للخطر، في وقتٍ يواجه الوطن أصلاً الكثير من المخاطر، ويقف على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
وبين هذا الرأي وذاك، تُطرَح علامات استفهام حول "هيبة" الدولة ككلّ، إذا ارتأت أن يمرّ اعتداءٌ أقرّت بحصوله من دون ردّ حازمٍ وواضحٍ، أياً كان شكله، أو إذا سمحت بأن يأتي الردّ من دون علمها، كما يقول البعض، "هيبة" يبدو أنّها ستبقى قيد الاختبار حتى إشعارٍ آخر...