تقتنع إيران أنّ أكبرَ ورقةٍ تستطيع امتلاكها هي أن تتمدَّد عسكرياً وتسيطر على القرار في العراق وسوريا ولبنان وغزّة. حينذاك، تصبح ذات حدود مع إسرائيل الإبنة المدلَّلة للولايات المتحدة، بل تطوِّقها، وتبدأ مساوماتها الكبرى. لذلك، ردَّت عليها إسرائيل بهجوم معاكس: ضربَت أذرع إيران الممدودة، وذهبَت إلى العراق لتصبح مباشرة على الحدود الإيرانية: واحدة بواحدة!
لا يمكن إنكار الغموض الذي لفَّ مجريات الأحداث في الضاحية الجنوبية فجر الأحد الفائت. فما هو واضح، أنّ هناك طائرتين مسيَّرتين في العملية، وأما البقية فيكتنفها الغموض التام. وتتناقض الروايات والسيناريوهات التي يوزّعها المعنيون جميعاً، وكأن كلّاً منهم يريد إخفاء عنصر معين، أو أكثر، لضرورات عسكرية أو غير عسكرية.
لذلك، لم يتمكن الخبراء والمحللون الذين حاولوا معرفة ما جرى «موضوعياً» وبعيداً عن «البروباغندا»، من رسم صورة متكاملة، لكنهم توقفوا عند عناصر واضحة ترتبط مباشرة بالحدث:
1 - إنّ الطائرات المسيّرة (الدرون)، بطلة الفيلم في عملية فجر الأحد، كانت نجمة الليالي في سماء جبل لبنان الجنوبي في الأيام الأخيرة. وقد طرح أبناء الشوف وعاليه وبعبدا أسئلة حول هوية هذه «الدرونات»، ولم يلقوا جواباً من أحد.
وثمة مَن سأل: إذا كانت إسرائيل هي التي تجتاح الأجواء بهذا الشكل، فلماذا لا يرفع لبنان صوته شاكياً خرقها القرار 1701؟ وأما إذا كانت قوى غير معادية هي التي تدير هذه الطائرات للمرة الأولى بهذا الشكل، فما الهدف الذي تسعى إليه: التدريب أم الحماية أم الاستكشاف أم غير ذلك؟
ولأنّ أحداً لم يقدّم جواباً للناس في الجبل، انطلقت التكهنات. وذهب خيال البعض إلى حدّ الربط بين «الدرون» وحال التوتر التي سادت أخيراً هناك، على خلفية حادثة البساتين. وثمة مَن سأل: هل هي رسائل إلى وليد جنبلاط؟ ومنطقياً، يصعب إدراك قصة «الدرون» في الضاحية ما لم تُدرَك قصتُها في سماء الجبل أولاً.
2 - حسَمَ «حزب الله» الجدل بالقول إنّ إسرائيل هي التي نفّذت العملية، وارتكبت أوسع خرق للقرار 1701. وبالنسبة إليه، يكفي تزامن استهداف إسرائيل لـ«الحزب» في بيروت ودمشق وضربُ «الحشد الشعبي» في العراق لتأكيد أنّ الجهة المعتدية واحدة، ووقف التكهنات والتساؤلات التي يبدو بعضها بريئاً وبعضها الآخر خبيثاً.
لكن إسرائيل نفسها لم تعترف بالعملية. وعلى العكس، حاول مسؤولون إسرائيليون الإيحاء بأن الطائرتين اللتين أُسقطتا من صنع إيراني، وأنّ «حزب الله» كان يجهزهما لتنفيذ عملية داخل الحدود الإسرائيلية، كما يفعل في محيط دمشق، وقد تمكّنت إسرائيل من كشفهما وتعديل وجهتهما الكترونياً لتنفجرا في مقرٍّ لـ«الحزب» في الضاحية.
وطرح الإعلام الإسرائيلي والأميركي أسئلة عن مدى الجدّية في الرواية الرسمية التي أطلقها «الحزب»، والتي جاء فيها أنّ الطائرة المسيَّرة أسقطها شبّان بالحجارة.
3 - أعلن «حزب الله» قبل فترة، بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أنه لن يقف مكتوفاً إذا تعرَّضت إيران لاعتداء إسرائيلي، في أي منطقة من الشرق الأوسط.
ومن الواضح أنّ «الحزب» يأخذ على عاتقه القيام بدوره العسكري في منظومة الدفاع الإيرانية في المنطقة، وهو دور الرادع لإسرائيل في المواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة.
وكرَّر «الحزب» مراراً تأكيده على جدّية هذا الالتزام، خصوصاً أنّ المواجهة الأميركية - الإيرانية تتجّه إلى مزيد من السخونة، ما يجعل إيران في حاجة ماسّة إلى دور يقوم به «الحزب» لردع إسرائيل: إما بالانخراط فعلاً في المعركة معها، أياً تكن التكاليف، وإما بالمناورة فقط!
وكان السيّد نصرالله أعلن أنّ ترسانة الحزب الصاروخية صارت أقوى بكثير مما كانت عليه قبل حرب تموز 2006. وفي أيلول العام الفائت، لفت الى إنّ محاولات إسرائيل لقطع الطريق على الصواريخ الدقيقة الأهداف، الآتية من سوريا، قد باءت بالفشل.
وقال: «مهما فعلتم. لقد انتهى الأمر وتمّ إنجازه، وباتت المقاومة تملك من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة ومن الإمكانيات التسليحية ما يمكِّنها، إذا فرضت إسرائيل حرباً على لبنان، أن تواجهها بمصير لم تتوقعه في أي يوم من الأيام».
في تقدير محللين أنّ أي طرف في الصراع، سواء إيران وحلفائها أو إسرائيل، لا يستطيع الذهاب بالتصعيد إلى الحد الأقصى، لأنّ الحسابات مكلفة هنا وهناك. فلا بنيامين نتنياهو يريد فتح الجحيم عليه حالياً، في ظل مرحلة سياسية داخلية وخارجية دقيقة، ولا «حزب الله» في وارد دفع لبنان إلى «تجربة الخراب» التي ذاقها في 2006، وهو يكاد ينهار أساساً. فالصواريخ التي هدَّد بها «الحزب» طويلاً ربما صارت جزءاً من «احتياط» الردع لا أكثر، ولا قيمة لها في الاستعمال واقعياً، تماماً كما هي الترسانات النووية في الدول التي تملكها.
والبديل الممكن هو تبادل الرسائل أو العمليات «المحدودة» نسبياً، بواسطة «الدرونات» التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة للدول، كما للمجموعات النظامية وغير النظامية. والأرجح أنّ إسرائيل و»حزب الله» يستسيغان هذه الوسيلة الفعّالة وغير المكلفة بكل المقاييس.
وإذا كان الإسرائيليون قد اختبروا «الدرونات» في سوريا والعراق من قبل، فإن «حزب الله» سبق أن اختبرها في معارك القلمون السوري عام 2015 وهو جاهز اليوم لاختبارها مع إسرائيل أيضاً. وسبق لهذه الطائرات أن حلّقت فوق الحدود لجهة الجليل، وأعلن الإسرائيليون إسقاط إحداها العام الفائت.
إذاً، على رغم السقف المرفوع، على خلفية «درونات» الضاحية، لن يستخدم «حزب الله» طاقاته التدميرية الموعودة، ولاسيما ترسانته الصاروخية الهائلة، ولو جاءت لحظة المواجهة الكبرى بين إيران وخصومها، وهو سيكتفي بالتهديد والضربات الموضعية.
ولكن، الأصحّ هو أنّ المواجهة الكبرى لن تقع على الأرجح. فحتى إيران والولايات المتحدة ليستا مستعدتين للعب «صولد». وفي أساس اللعبة، لا إيران تريد محو إسرائيل عن الخريطة ولا تستطيع، ولا إسرائيل تريد إسقاط الجمهورية الإسلامية أو تدمير «حزب الله».
فالجميع يعرف حدوده، ويدرك أنّ هناك مصالح أكبر من العداوات أحياناً. فقط، هي عملية رسم حدود وسقوف لكل طرف.