دخل لبنان منعطفاً خطراً ينذر بكسر قواعد الاشتباك مع العدو الإسرائيلي والتي كان معمولاً بها منذ عام 2006، وذلك بعد الاعتداء الفاشل بالمسيرات الإسرائيلية المفخخة على الضاحية الجنوبية لبيروت والتي تعتبر عقر دار المقاومة والبيئة الحاضنة لحزب اللـه الأمر الذي وصفه أمين عام الحزب السيد حسن نصر اللـه بـ«الخطير جداً جداً جداً».
بعد هذا الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية انبرى أصحاب الحبر السيال وكتبوا وحللوا وأفاضوا بتحليلاتهم وتوقعاتهم، أما خبراء الإستراتيجية العسكرية والسياسية فحدث ولا حرج، فقد احتلوا الشاشات وافرغوا ما بحوزتهم من توقعات لم ترق إلى مستوى الحدث وخطورته وهي توقعات وتحليلات أقل ما يقال فيها إنها من نسج الخيال وخارج السياق وبعيدة عن الواقع.
صحيح أن الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت هو الأول من نوعه منذ 2006، لكن هول الحدث أنسانا تسلسل الأحداث قبل اعتداء الضاحية الجنوبية، فهناك اعتداءات إسرائيلية نفذت بوساطة المسيّرات على معسكرات ومخازن أسلحة تابعة لـ«الحشد الشعبي» في العراق المدعوم من إيران، وبعد ذلك تدحرجت الأمور وتطورت الاعتداءات الإسرائيلية وصولاً إلى الغارة الإسرائيلية على مكان مخصص لسكن كوادر مجاهدي حزب اللـه في بلدة بضواحي العاصمة دمشق والتي أسفرت من استشهاد اثنين من كوادر الحزب، فيما وصف الحدث بأنه عملية اغتيال نفذتها طائرات إسرائيلية عن سابق ترصد وتصميم.
وإذا ربطنا الاعتداء الإسرائيلي بالمسيرات المفخخة على الضاحية الجنوبية لبيروت، مع مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية على العراق ودمشق وصولاً إلى ضاحية بيروت، لأدركنا أن الهدف الإسرائيلي من تلك الغارات والاعتداءات ليس شخصاً بعينه بقدر ما هو ضرب أذرع محور المقاومة في المنطقة.
إذاً الإستراتيجية الجديدة للعدو الإسرائيلي هي ضرب مراكز القوة لمحور المقاومة في محاولة إسرائيلية لتعطيل وتشتيت أهداف المحور لأنه بات يشكل تهديداً إستراتيجياً ليس لإسرائيل وحسب إنما لكل من تسول نفسه بخلط الأوراق أملاً بواقع جديد قوامه الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استنجد بالرئيس الإيراني حسن روحاني طالباً منه الضغط على حزب اللـه بضبط النفس وعدم الرد على اعتداءات الضاحية ودمشق لأن رد المقاومة سيزعزع أمن المنطقة.
الرئيس روحاني رد على ماكرون بالقول إن إسرائيل هي المعتدية على العراق وسورية ولبنان وأن من حق المعتدى عليهم الرد على المعتدي الإسرائيلي، مضيفاً: بأن إسرائيل باعتدائها على منطقة الضاحية في بيروت قد ارتكبت خطأ فادحاً ويجب أن تدفع ثمن هذا الخطأ.
اللافت هو ازدواجية المعايير والمفاهيم والمعادلات الدولية والإقليمية، فقد بادر رؤساء دول أوروبية وعربية وحتى الإدارة الأميركية للاتصال وإرسال رسائل إلى لبنان الرسمي وإلى قيادة حزب اللـه تحذر فيها من تداعيات أي رد من المقاومة على إسرائيل لأنه يزعزع أمن المنطقة، فيما الاعتداء الإسرائيلي على السيادة اللبنانية لا يعتبر مزعزعاً لأمن المنطقة، وكأن الاعتداءات والاغتيالات والتفجيرات الإسرائيلية في كل من لبنان وسورية والعراق حدثت بهدف تعزيز أمن المنطقة، أما رد اعتبار السيادة اللبنانية وردع العدو الإسرائيلي عن الاستمرار بجرائمه واعتداءاته، فهو أمر مزعزع لأمن إسرائيل.
إن قيادة المقاومة في حزب اللـه لم تعر كل الرسائل والاتصالات والإغراءات الدولية والعربية أي اهتمام وخصوصاً تلك الداعية إلى ضبط النفس والهادفة إلى ثني المقاومة اللبنانية عن الرد على العدوان الإسرائيلي.
فقيادة المقاومة لديها جواب واحد وهو الرد الحتمي أولاً ثم العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة وعندها فقط يمكن للمقاومة النظر بضبط النفس، فمن غير المسموح به هو تحويل المنطقة أو لبنان إلى ساحة لاستثمارها في صندوق اقتراع الانتخابات الإسرائيلية أو تصوير رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو وكأنه حامي الكيان الصهيوني.
قيادة حزب اللـه ومنذ اللحظة الأولى لاستشهاد كوادره في سورية، اتخذت قراراً إستراتيجياً بالرد على استهداف إسرائيل لهم واغتيالهم عمداً في دمشق، أما وبعد الاعتداء الإسرائيلي الفاشل على الضاحية والذي شكل خرقاً فاضحاً وتعدياً سافراً على السيادة اللبنانية فقد أضحى رد المقاومة ملزماً بالشكل والمضمون.
إن رد المقاومة المحكم أمس عبر ضرب قاعدة أفيفيم العسكرية التابعة للعدو الإسرائيلي الواقعة ضمن الشمال الفلسطيني وتدميره لآلية عسكرية إسرائيلية على الطريق عند ذات القاعدة، جاء رداً متكافئاً مع اعتداءات العدو بالشكل والحجم والمضمون والجغرافيا، كما أن رد المقاومة المحكم جاء تنفيذاً لوعد من نصر اللـه حينما قال إن رد المقاومة سيكون من لبنان وعبر الحدود اللبنانية الفلسطينية في رسالة واضحة بأن قواعد الاشتباك مع العدو ستكون أمام متغيرات جديدة، أما قول نصر اللـه بأن الرد سيتمثل بالحكمة والشجاعة والدقة، فهي رسالة مفادها أن رد المقاومة سيكون مدروساً لا يؤدي إلى حرب واسعة، وإن عدتم عدنا، أما امتناع عناصر المقاومة من استهداف عناصر الإسعاف الميداني الإسرائيلي المكلفين إخلاء الإصابات، فذلك يعتبر بأن الرد الذي سمي بأسماء الشهداء الكوادر زبيب وضاهر يعني أن الرد هو رد محدود.
حتى إعداد هذا المقال كان الدخان يغطي معظم المناطق الحدودية بين لبنان وفلسطين جراء إطلاق القذائف، لكن من يجيد قراءة رسالة المقاومة يتبين له أن عملية المقاومة جاءت رداً على اغتيال كوادر لحزب اللـه في دمشق، أما الرد على عملية الطائرات المسيرة في الضاحية فهو رد معلق حتى اللحظة بانتظار تطور الموقف العسكري والسياسي وبانتظار رقعة وحجم رد العدو الإسرائيلي والتعامل معه.
إن قواعد الاشتباك المعمول بها بين المقاومة والعدو الإسرائيلي لم تعد قائمة بعد اليوم، وإن متغيرات جديدة للقواعد ستفرض على العدو الإسرائيلي وستجبره على تحمل تبعات ما أقدم عليه من اعتداء سافر على لبنان.
إعلام العدو الإسرائيلي آخذ بانتقاد شخص نتنياهو موجهاً اللوم إليه علناً متهماً إياه بأنه نجح في تهشيم صورة «الجيش الذي لا يقهر».
إذاً نفذت المقاومة وعدها بالرد خصوصاً أن تحذيراً سابقاً كان قد صدر عن نصر اللـه بالرد المباشر على استهداف أي من مجاهدي حزب اللـه أو اغتياله غيلة.
قيادة أركان العدو الإسرائيلي تعيش حالة من القلق الشديد وهي المرتعدة من تطور الأوضاع بحيث لم يعد بإمكانها التحكم بزمام الأمور إضافة إلى اجتماع الكابينت الإسرائيلي يسوده الهيستيريا والارتباك والفوضى والخوف.
نتنياهو ومنذ لحظة الإعلان عن رد المقاومة يعيش حالاً من التخبط الداخلي المليء بتصاريح متناقضة تشير إلى ارتباك وعدم تنسيق فاضح كشف عن مدى تخبطه وعن وهن الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني وانعدام تماسك مؤسساته العسكرية والطبية والمدنية.
إن رد المقاومة الحتمي والمؤلم يعتبر نجاحاً ميدانياً وتفوقاً في الحرب النفسية يحسب للمقاومة.
رد المقاومة الذي جاء مدروساً بعناية فائقة يعتبر رداً محدوداً في الحجم حتى اللحظة كما أنه يفيد بأن لا نية للمقاومة في توسيع رقعة المواجهة مع العدو وأن المقاومة تترقب رد الفعل للعدو الإسرائيلي الذي أصدر بياناً عسكرياً مقتضباً يفيد بإطلاق مئة قذيفة إسرائيلية على مصادر النار من الجهة اللبنانية وهذا يعني أن العدو قد ابتلع رد المقاومة وقبل به وبحجمه وأنه لا يسعى إلى التصعيد مع لبنان.
إن المقاومة ستكون جاهزة لكل السيناريوهات وفي هذه الحالة تؤكد بأن المقاومة قد نجحت في تحديد نوع الرد ونجحت في إجبار العدو الإسرائيلي على العودة إلى قواعد الاشتباك لكن بتوقيع المقاومة هذه المرة ما يضطر العدو إلى ابتلاع الطعم اللبناني وإلا فإن الأحداث ستأخذ منحىً خطراً لا يمكن للعدو تحمل تبعاته.
وحتى اكتمال الصورة فإن نتنياهو يبدو وكأنه ملاكم في حالة هيستيرية يتحضر لملاكمة خصمه الذي فاز عليه بالنقاط ما جعل نتنياهو نفسه يدرك متأخراً بأنه يلاكم الهواء.