مجدّداً، فاز وزير الخارجية جبران باسيل برئاسة "التيار الوطني الحر" بالتزكية، بعدما اقتصرت الترشيحات على لائحة "يتيمة" برئاسته، وعضوية كلّ من مي خريش لمنصب نيابة الرئيس للشؤون السياسية، ومارتين كتيلي لنيابة الرئيس للشؤون الإدارية.
ومع أنّ "التيار" يُعتبَر من الأحزاب المناصرة للديمقراطيّة والتنوّع، بحسب ما تؤكد قيادته، فإنّ أحداً لم يترشح في وجه باسيل، لا بصورةٍ جدّية، ولا حتى من باب "رفع العتب"، كما حصل مثلاً في حزب "الكتائب" في وقتٍ سابق، حين ترشح أحد القياديّين في وجه النائب سامي الجميل.
وإذا كان معارضو "التيار" وضعوا ما حدث في خانة سياسة "الأمر الواقع" التي يفرضها باسيل، عبر إلغاء أيّ صوتٍ معارضٍ له داخل الحزب، يعتبر الموالون للأخير أنّ الواقعيّة هي التي أملت "التزكية"، لإدراك كلّ الطموحين لرئاسة "التيار" أنّ حظوظهم كانت "معدومة"...
أين المعارضون؟!
كان من المفترض أن تجري انتخابات "التيار الوطني الحر" في الخامس عشر من أيلول الجاري، في اليوم نفسه الذي يفترض أن تجري فيه الانتخابات النيابية الفرعية في صور لملء المقعد الشاغر نتيجة استقالة عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب نواف الموسوي. ومع أن الاستحقاق المُنتظَر شبه محسوم لصالح "حزب الله"، فإنّه لا يزال، أقلّه حتى الساعة، عند موعده، مع تسجيل بورصة الترشيحات مرشحين اختاروا مواجهة مرشح "الحزب"، ولو كان الأخير الأوفر حظاً.
من هذه المفارقة المثيرة للانتباه، ينطلق بعض خصوم "التيار الوطني الحر" للتصويب على "التزكية" التي أنهت "العرس الديمقراطي" قبل أوانه، ولو كانت التزكية في الأصل خياراً ديمقراطياً بشكلٍ أو بآخر، باعتبار أنّ أحداً لا يستطيع أن يفرض على أحد خوض الانتخابات، إن لم يكن لدى الأخير النيّة بذلك. وبهذه الروحية، يعتبر هؤلاء أنّ مواجهة "حزب الله" في عقر داره في الجنوب، مع كلّ ما يُقال حول سيطرته المُطلقة على المناطق الجنوبية وصولاً إلى حدّ "تخوين" أيّ أصوات معارضة له، باتت أمراً أسهل من منافسة باسيل على موقع رئاسة "التيار".
ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ "التزكية" لا تعبّر حقيقةً عن وجود إجماعٍ داخل "التيار" على شخص باسيل لقيادته في هذه المرحلة، بقدر ما تشكّل نتيجة طبيعية وبديهية للسياسة التي مارسها باسيل منذ وصوله إلى رئاسة "التيار"، بتوصيةٍ من رئيس الجمهورية ميشال عون، والتي أقصى بموجبها كلّ معارضيه، الذين خرجوا من الصفوف التنظيميّة، إما طوعاً كرسالة احتجاجيّة على الواقع الحزبيّ، أو بقرارات طرد صدرت رسمياً بدفعٍ مباشر من باسيل، بسبب مخالفتهم لتوجّهاته وقراراته، وبالتالي فإنّ من لا يزالون في "التيار" حتى اليوم هم من الموالين له، أو بالحدّ الأدنى ممّن يفضّلون "التطبيع" معه، بانتظار نضوج ظروفٍ ما من شأنها تقوية موقفهم.
الرقم الصعب...
في قيادة "التيار الوطني الحر"، لا يبدو أنّ رواية الخصوم تجد صدىً، خصوصاً أنّ أحداً لم يمنع أياً من المحازبين من الترشح لرئاسة "التيار"، إذا ما وجد أنّ لديه المؤهّلات المطلوبة لذلك، تماماً كما أنّ النظام الداخلي يعطي الحقّ الكامل للوزير باسيل للترشح مجدّداً إلى رئاسة "التيار"، وهو حقّه الطبيعي والبديهي الذي لا يفترض أن يخضع للنقاش أو الجدل.
بالنسبة إلى الفريق المؤيّد لباسيل، ثمّة قراءتان ممكنتان لواقعة عدم ترشح أحد لمواجهة باسيل، لا يمكن اختزالها بالحديث عن "عدم جرأة" بقدر ما تنمّ عن "واقعية" في قراءة المشهد الداخليّ، بشكلٍ أو بآخر. ولعلّ القراءة الأولى في هذا الصدد تكمن في وجود قناعةٍ لدى المحازبين بأنّ الوزير باسيل هو الشخص الأقدر على تولي زمام القيادة في هذه المرحلة، بعدما فرض نفسه "الرقم الصعب" طيلة السنوات الأربع الماضية، وذلك على كلّ المستويات، بدليل أنّ كثيرين ممّن كانوا يعارضون باسيل في مستهلّ الولاية الأولى، باتوا اليوم يجاهرون بدعمه، نتيجة "الديناميكية" التي أظهرها خلال هذه السنوات.
وربطاً بهذه القراءة، تأتي القراءة الثانية مكمّلة لها لتعتبر أنّ باسيل فرض نفسه أيضاً "رقماً صعباً" من حيث القدرة على مواجهة أيّ منافسٍ مفترَض، وهو ما دفع الفريق المعارض له إلى "تجميد" حراكه بشكلٍ أو بآخر، خصوصاً بعدما أدرك أنّ خوض الاستحقاق في مواجهته لن يكون لصالحه، علماً أنّ استطلاعات رأي تمّ تسريبها أفادت بأنّ باسيل يحظى بتأييد أكثر من 90 في المئة من القاعدة "العونيّة"، وأنّ أيّ مرشّحٍ في مواجهته اليوم لم يكن ليحصل على أكثر من 10 في المئة من الأصوات، وبالتالي فإنّ الطامحين إلى رئاسة "التيار"، وهم موجودون، أدركوا أنّ النتيجة التي سيحقّقونها قد تكون "مخيّبة"، بما يمكن أن ينعكس سلباً على واقعهم، وتلقائياً على فرصهم المستقبليّة في الوصول إلى مراكز متقدّمة داخل "التيار"، أو حتى إلى رئاسته بعد انتهاء ولاية باسيل، إذا ما تغيّرت الظروف.
ويضيف المؤيدون إلى العوامل التي لعبت لصالح باسيل، نجاح الأخير بضرب عصفورين بحجر، مع إعلانه خوض الانتخابات الحزبية إلى جانب سيدتين، في خطوةٍ اعتُبرت نوعيّة على مستوى تأييد المشاركة النسائية في العمل الحزبيّ، علماً أنّ نماذج وصول النساء إلى مراتب متقدّمة تكاد تكون معدومة في الأحزاب اللبنانية، باستثناء واحد في "القوات اللبنانية" التي تتولى أمانتها العامة سيّدة هي شانتال سركيس، مع أنّ هذا المركز يبقى بالنسبة لكثيرين أقلّ من مستوى نائب الرئيس.
خلافة عون؟!
هي المرّة الثانية التي يفوز بها الوزير جبران باسيل برئاسة "التيار الوطني الحر" بالتزكية، إلا أنّ طعمها هذه المرّة يبدو مختلفاً عمّا كانت عليه قبل أربع سنوات.
ففي المرّة الأولى، جاءت تلبية لتوصيةٍ من الرئيس ميشال عون، وسط الاعتقاد يومها بأنّ أيّ معركةٍ كان من شأنها أن تطيح بباسيل. أما اليوم، فلا يبدو مُبالَغاً به القول إنّ الرجل كان يتوق للمعركة، ليثبت التغيير الكبير الذي أحدثه في قلب الحزب.
وتماماً كما اختلف الطعم، فإنّ التحديات باتت اليوم مختلفة، داخل وخارج الحزب، لمواكبة مرحلةٍ أطاح فيها باسيل بالكثير من التفاهمات، استعداداً لخلافة عون مرّة أخرى، لكن هذه المرّة في رئاسة الجمهورية...